رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

محليات

2638

القرضاوى: السباعي كان من رواد الوسطية ودعا إليها بلسانه وقلمه

24 يونيو 2015 , 12:47م
alsharq
الدوحة - بوابة الشرق

الكتاب: "في وداع الأعلام"

المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي

الحلقة : الثامنة

إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).

ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.

إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.

وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم.

يتحدث اليوم الشيخ القرضاوي عن الداعيه الفقيه مصطفى السباعي

من الرجال الذين اصطفاهم الله لنفسه، وصنعهم على عينه، ورباهم بين يديه – نحسبه كذلك- الداعية الفقيه الأصولي، الصابر المجاهد، مصطفي حسني السباعي، أحد العمالقة في العلوم الشرعية، وفي الثقافة اللغوية، وفي الخبرة التربوية، وفي المصارعة السياسية، وفي المقاومة الاجتماعية، هو في كل هذه الميادين، فارس الميدان، ثقيل الميزان، حبيب الرحمان.

صاحب الروح المشرق، والبيان المُغْدِق، والعقل المنفتح، الذي قاوم أعداء السُّنَّة، فأسكتهم، ودعاة العلمانية فأفحمهم، مؤسس الحركة الإسلامية في سورية، والمراقب العام الأول للإخوان في سورية، ومنشئ مجلة (حضارة الإسلام)، وأول عميد لكلية الشريعة الإسلامية في سورية، وصاحب الكتب القيمة والرسائل النافعة.

كان الشيخ السباعي أحد الشخصيات الإسلامية النادرة: في علمها وفكرها، وفي عواطفها ومشاعرها، وفي أخلاقها وسلوكها، وفي دعوتها وجهادها. كان خطيبًا وسياسيًّا يهز أعواد المنابر، ومحاضرًا يأسر سامعيه بعميق فكره، وجميل أسلوبه، ومؤلفًا متمكنًا يوثق أقواله بالأدلة العلمية، وزعيمًا شعبيًّا يقود الجماهير بكياسة وحكمة، وقائدًا إسلاميًّا يقود سفينة الدعوة بوعي وصبر وثبات.

وبعد أحكام الإعدام في مصر في عام 1954م على ستة من الإخوان المسلمين، هم: عبدالقادر عودة، والشيخ محمد فرغلي، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ومحمود عبداللطيف، رحمهم الله تعالى، صلى الأستاذ السباعي في دمشق صلاة الغائب على الشهداء، ووقف بعد الصلاة متحدثَا للجمهور، وطالبهم أن يعاهدوه على "الانتقام للشهداء" وقد استجابوا له، وعادت العلاقات مرة أخرى بين سورية ومصر إلى حد القطيعة.

وبعد أن حول أتاتورك جامع آيا صوفيا إلى متحف، كان الشيخ السباعي كلما زار آيا صوفيا صلى فيه ركعتين. وقد اقتدى العلامة أبو الحسن الندوي بالشيخ السباعي حين زار آيا صوفيا وصلى ركعتين بالمسجد.

لقاءاتي بالشيخ السباعي:

* معاملة خاصة

لقيته أول مرة عندما زارنا في مدينة المحلة سنة 1953م على ما أذكر، وألقى محاضرة رائعة شهدها جمهور كبير، واستمر نحو ساعتين، والناس مشدودون إلى المحاضر بأعينهم وعقولهم ومشاعرهم، لم يبرح أحد مكانه. وقلما يحدث هذا والداعية غير مصري.

والمرة الثانية كانت عندما جمعني به الأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية بالأزهر، على حفل شاي في فندق شبرد، وكان ذلك تكرما منه، فهو رئيسي في العمل، ولكنه كان يعاملني معاملة خاصة لا يحظى بها أحد من زملائي، وقد أهداني الشيخ كتابيه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) و(اشتراكية الإسلام). وكان الدكتور محمد البهي يعتبر الدكتور السباعي في مقدمة علماء سورية، ويعتبره مثلا أعلى في التجرد الأخلاقي والثقافي.

والمرة الثالثة في رحاب المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، في الموسم الحج سنة 1384هـ، الموافق سنة 1964م، فقد قال تعالى في منافع الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [الحج: 28]، وكان من هذه المنافع لقاء العلماء والدعاة بعضهم ببعض، وأخذ بعضهم عن بعض، وتحمل التواصي بالحق وبالصبر فيما بينهم.

وجلست معه طويلًا، وتحدث إليَّ طويلًا وتحدثت إليه قليلًا، وأفضى إليَّ بما في ذات نفسه، وأسمعني من قصائده العاطفية التي تفيض حبًّا وشوقًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قصيدته الشهيرة:

احملوني إلى الحبيب وروحواواتركوني ببابه واستريحوا

وكان الشيخ ينشد هذه الأبيات ودموعه تسيل على خديه تأثرًا وحبًّا للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد تأثرت بإنشاده فبكيت معه.

وذكر الشيخ لي معاناته وآلامه، في سنواته الأخيرة، وكيف ذهب إلى أوروبا للعلاج، وكيف وجد في كل مدينة يذهب إليها إخوة ينتظرونه، وقد رتبوا له كل شيء: الفندق الذي ينزل به، والمستشفى الذي سيعالج فيه، والطبيب الذي سيتولى فحصه والإشراف عليه، وكل ما يلزمه من دقائق الأمور وجلائلها، يقول: فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، وبدافع من الأخوة الإيمانية، وأنا والله لا أعرفهم، ولا هم من بلدي، ولكنه سر الدعوة التي أزالت الحواجز بين الناس، وقربت أهل الإيمان بعضهم من بعض، حتى كأنهم أسرة واحدة؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وصدق حين قال لرسوله: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 62-63]

وكان هذا هو اللقاء الأخير بالأخ الكبير، والأستاذ المبجل، والإمام الجليل، وكانت أحاديثه معي من القلب إلى القلب، كأنما هي أحاديث مودّع، فما هي إلا أشهر قليلة، حتى اختار الله الشيخ لجواره، وودعته الأمة المسلمة.

* إهدائي له كتابي (الحلال والحرام):

وكان الأستاذ السباعي ممن أهديت له كتابي (الحلال والحرام في الإسلام)، وأهديته أيضا لثلاثة آخرين من علماء سورية، وكلهم أصدقاء الشيخ هم: الأستاذ مصطفى الزرقا، والدكتور معروف الدواليبي، بالإضافة إلى الأستاذ محمد المبارك، أرسلتها النسخ الأربع مع أحد الإخوة السوريين الذين يدرسون في مصر.

السباعي من رواد الوسطية:

الشيخ السباعي من رواد الوسطية، وممن دعا إليها بلسانه وقلمه وبسياسته ونهجه، وبمحاضراته وكتبه ودروسه، كما تجلَّى ذلك في كتبه (السنة ومكانتها في التشريع)، و(المرأة بين الفقه والقانون)، و(من روائع حضارتنا)، و(اشتراكية الإسلام). وإن اعترض بعض الناس على عنوانه، ولكنه أضاف الاشتراكية إلى الإسلام، فلم يدْعُ إلى أيِّ اشتراكية، بل الاشتراكية المضافة إلى الإسلام، والمستمدَّة من الإسلام.

وله عددٌ من الرسائل والمقالات كلها تنبع من النظرة الوسطية المجدَّدة، أو التجديد الوسطي في الإسلام.

مؤلفاته:

كان للشيخ السباعي عدة مؤلفات مهمة في موضوعها، واضحة في هدفها، أصيلة في فكرتها، رائعة في أسلوبها، قوية في أدلتها، مؤثرة في قرأتها. يجمع بين العقل والعاطفة، تخاطب صميم العقل، وترطب أعماق القلب.

منها كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)، وقد رد فيه على خصوم السنة قديمًا وحديثًا، وفنَّد شبهاتهم. رد على المستشرِقِين، وعلى الأستاذ أحمد أمين، وعلى أبو رية وكتابه (أضواء على السنة المحمدية)، فكشف زيفه، وعرّاه، وأسقطه مثخنًا بالجراح، بالبراهين العلمية، وبالرجوع إلى المصادر الموثقة، لا إلى كتب الأدب والتاريخ ونحوها، كما فعل أبو رية.

وقد حدثني الشيخ السباعي: أن (أبو رية) زاره عندما جاء إلى مصر، وقال له: إنه كان شديد القسوة عليه، وأن ضرباته له كانت موجعة، وقال الشيخ: إني لم أحِدْ عن المنطق العلمي قِيدَ شعرة، ولم أعتمد على مصدر تافه، ولا على قول واهن السند، ولا على قول أحد مطعون في علمه أو دينه. وهل تريدني أن أرفق بك، وأنت لم ترفق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي- ولا بأصحاب رسول الله، ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه، أكثر الصحابة رواية عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا بأئمة المسلمين المتفق على جلالتهم وفضلهم وسعة علمهم وأمانتهم؟ هل تريد مع هذا أن أسميك (شيخ الإسلام)؟!! ولم يستطع أبو رية أن يتكلم.

ومن كتب الشيخ المهمة والذائعة الصيت (اشتراكية الإسلام)، وهو كتاب علمي أصيل، يعتمد على الأصول الإسلامية من القرآن والحديث وقواعد الشريعة ومقاصدها، وللشيخ فيه آراء عميقة، واجتهادات متميزة، وإن خالفه في شيء منها بعض مشايخ سورية المعروفين؛ مثل شيخ حماة وخطيبها العلامة محمد الحامد. ولكل منهجا نهجه، كما يقر بذلك الشيخ الحامد.

ومن العلماء من لم يعترض على مضمون الكتاب، إنما اعترض على العنوان، وهو نسبة الاشتراكية للإسلام، ورسول الإسلام لم يكن اشتراكيًّا ولا رأسماليًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين.

* الدولة الاسلامية

وإنما اختار الشيخ هذا العنوان حين فُتِنَ الناس بالاشتراكية، وزعم من زعم أنها هي المذهب الذي حدَّ من طغيان الأغنياء، ورفع من مستوى الفقراء، ووقف في صف الكادحين، أمام جشع الرأسماليين المستغلِّين، والطامعين المتجبرين، فأراد أن يقول لهم: إن الإسلام سبق بهذه المبادئ التي تنصف الفئات الضعيفة، والطبقات المسحوقة، وتأخذ بأيديها، وتصون حقوقها، بل تشعل الحرب من أجلها، حتى إن الدولة الإسلامية هي أول دولة في التاريخ، تُجَيِّش الجيوش، وتعلن القتال من أجل انتزاع حق الفقراء من براثن الأغنياء، حتى قال الصديق أبو بكر الصاحب الأول والخليفة الأول: والله لو منعوني عقالًا (أي: حبل بعير من حقوق الفقراء) كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه!

وهذه المبادئ في الإسلام على أحكم وجه، وأكمل صورة، وأقرب شيء إلى العدل والتوازن، دون اشتراكية مادية أو ملحدة أو مجحفة، بل الاشتراكية التي تقيم عدل الله في أرض الله، على جميع عباد الله، وهي الجديرة بأن تنسب إلى الإسلام. فهي اشتراكية مادية روحية، فردية اجتماعية، اقتصادية أخلاقية، إنسانية ربانية، واقعية مثالية، وليست مثل الاشتراكيات المقطوعة النسب بالله عز وجل.

وقد استغلت ثورة 23 يوليو في عهد عبدالناصر الكتاب، وطبعت منه عشرات الألوف، ترويجًا لاشتراكيتها الثورية الخاصة، ولعلَّ هذا ما أساء إلى الكتاب؛ حيث استُّغِلَّ ما فيه من حق، لتأييد ما عند القوم من باطل، وهو ما شكا منه الشيخ في أواخر حياته، غفر الله له، ورحمه، وتقبله في عباده، الذين أنعم عليهم، من الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أؤلئك رفيقًا.

ومن كتبه الشهيرة كتاب: (من روائع حضارتنا)، الذي قدَّم فيه بعض منجزات هذه الحضارة وآثارها المباركة، مما لا يمكن أن توصف معه بأنها حضارة جاهلية!

ومن كتب الشيخ: (المرأة بين الفقه والقانون)، و(شرح قانون الأحوال الشخصية)، و(أخلاقنا الاجتماعية)، وغيرها من الكتب والرسائل التي أسهمت في وقتها في تثقيف الأمة، وتوعيتها وتنوير عقولها، ودعوتها إلى المنهج الوسط الذي لا غلو فيه ولا تفريط.

وكان من الآثار الطيبة التي تركها الشيخ: مجلة (حضارة الإسلام)، أسسها الشيخ لتكون منبر (الإسلام الحضاري)، الذي يدعو إليه الشيخ. وليس إسلام الدروشة أو الرهبنة، ولا إسلام العنف والنقمة، ولا إسلام التعصب والانغلاق. وإنما هو الإسلام الذي يقيم حضارة عالمية إنسانية ربانية أخلاقية، علمية عمرانية، تصل الأرض بالسماء، والدنيا بالدين، والمخلوق بخالقه.

سجنه وإبعاده إلى لبنان:

في عام 1956م طلب السباعي من الحكومة السورية السماح لجماعة الإخوان المسلمين بسورية بالمشاركة في حرب السويس، إلى جانب المصريين، فقامت حكومة أديب الشيشكلي بحل الجماعة واعتقال السباعي وإخوانه، ثم أصدر أمره بفصل السباعي من الجامعة السورية، وإبعاده خارج سوريا إلى لبنان.

وفاته:

أصيب الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله في آخر عمره بالشلل النصفي، حيث شلَّ طرفه الأيسر، وظل صابرا محتسبا مدة 8 سنوات. ولحق بالملأ الأعلى راضيًا مرضيًّا إن شاء الله، يوم السبت 3 أكتوبر 1964م، أحوج ما تكون الأمة إلى مثله في علمه وفكره، وإيمانه وعمله، وخلقه وتوازنه، ولكنها سنة الله في خلقه { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وكذا قال الله لخاتم رسله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} [الزمر:30].

وصُلِّيَ عليه في الجامع الأموي بدمشق، وعزاؤنا فيه: أن العلماء الربانيين لا يموتون، تذهب أجسامهم، وتبقى آثارهم، في كتب تُقْرَأ، أو أشرطة تُسْمَع، أو مواقف تروى، أو أحداث تُؤَثِّر، أو مؤسسات تربي، أو جامعات ومدارس تبني تلاميذ يعلمون الناس. وبهذا يضيفون أعمارًا إلى أعمارهم، فإن عملهم موصول، وأثرهم لم ينقطع بالموت.

ففز بعلم تعش حيًّا به أبدًا الناس موتى وأهل العلم أحياء!

وكما قال شوقي في رثاء مصطفى كامل:

دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان

الشيخ محفوظ نحناح

الداعية ورئيس حركة مجتمع السلم

(1361 – 1424هـ = 1942 - 2003م)

** الشيخ محفوظ نحناح سيظل رمزًا من الرموز وشيخًا من الشيوخ الذين نذروا شبابهم وشيخوختهم للدعوة إلى الدين الاسلامى

في 19 يونيو 2003م، ودعنا أخانا وصديقنا العزيز علينا، الحبيب إلينا، الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله رحمة واسعة، هذا الرجل الذي عرفته في الجزائر، وعرفته خارج الجزائر، وعرفته منذ زمن طويل: داعيًا إلى الله على بصيرة، جنَّد نفسه منذ أدرك لخدمة الإسلام، والدفاع عن حياض الإسلام، والذود عن حرمات أمة الإسلام.

عاش حياته كلَّها داعيًا إلى الله، داعيًا إلى هذا الدين بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، متبنيًا تيار الوسطية والاعتدال، والرفق والرحمة، والحكمة والتدرج.

الشيخ محفوظ نحناح (رئيس حركة مجتمع السلم) في الجزائر، وأحد الدعاة الجزائريين، مهما اختلف مع الناس هناك، ومهما اختلف مع إخوان له هناك، فسيظل الشيخ محفوظ نحناح علامة من العلامات، ورمزًا من الرموز، وشيخًا من الشيوخ الذين نذروا شبابهم وشيخوختهم للدعوة إلى هذا الدين، وترك وراءه آثارًا طيبة وصالحة.

وقد شاء له ربُّه أن يعيش أواخر حياته مريضًا، ليكفر من سيئاته، ويزيد من حسناته، ويرفع من درجاته، حتى توفاه الله منذ أيام.

وقد قدمنا عزاءنا فيه لإخوتنا في الجزائر، لآل نحناح، ولإخوتنا في حركة مجتمع السلم، وللإخوة العاملين للإسلام هناك، وللجزائر كلها، وللداعين إلى الله في أنحاء الأرض، وعزينا أنفسنا، وعزينا الأمة، بفقد رجل من رجالاتها.

ولا نملك إلا أن ندعو الله تبارك وتعالى، أن يتغمده برحمته وبمغفرته، وأن يسكنه الفردوس الأعلى، وأن يخلفه في ذريته وإخوانه بخير ما يخلف به عباده الصالحين، وأن يتقبله في عباده المؤمنين، ويجزيه عن الدين والوطن والأمة خير ما يجزي به الأئمة والعلماء العاملين والدعاة الصادقين، ونسأل الله سبحانه وتعالى، أن يغفر له ويرحمه، وأن يعوضنا فيه خيرًا. آمين.

مساحة إعلانية