رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قدم المدينة المنورة ذات يوم، وفد من نصارى نجران، وأتَوْا مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، وهو جالس مع نفر من أصحابه، فلما استقروا في مجلسهم، جعل رسول الله، يعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم إلى الإيمان، ولكن القوم أبَوْا إلا أن يقيموا على دينهم، وقبل أن يهموا بالانصراف من عنده، ليرجعوا إلى ديارهم، سألوه أن يبعث معهم رجلا من أصحابه ليحكم بينهم، ويَفصل في أمور قد اختلفوا فيها، وتنازعوا عليهما، فقال لهم رسول الله: (لأبعثنّ إليكم رجلا، أمينا حَقَّ أمين، حق أمين- قالها ثلاثا- فائتوني العشيّة).
سمع الصحابة ممن كان في المجلس هذه المقالة، فودّ كل منهم أن يكون هو الأمين الذي يعنيه رسول الله، والذي سيبعثه مع وفد نجران، واستشرفت نفوسهم لهذا الثناء والتزكية:(حقَّ أمين، حق أمين)، من النبي الكريم، فإن ذلك عز وفخر لمن يظفر به ويناله، حتى إن عمر بن الخطاب، الفاروق- وكان حاضرا- قال: (ما أحببت الإمارة قط، حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها)، فراح عمر إلى صلاة الظهر مبكرا، فلما صلى بهم رسول الله، سلّم ثم أخذ ينظر عن يمينه وعن يساره، وهنا طفق عمر يتطاول، ويمدُّ عنقه حتى يراه رسول الله، الذي لم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه، وقال: (اخرج معهم فاقضِ بينهم بالحق، فيما اختلفوا فيه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح). هنالك غبط عمر أبا عبيدة، وجعل ينظر إليه بإعجاب وإكبار، ومن يومئذ عظم في عينه، وأحبه حبا كبيرا، كما سنعرف فيما يأتي معنا.
استمر أبو عبيدة بن الجراح أمينا على الأمة، يحمل أمانتها، بعد وفاة رسول الله، مثلما كان من قبل، يعمل مخلصا في عمله، ويجاهد متفانيا في جهاده، لا تفتر همته، يبذل في سبيل أمته كل ما تستطيعه يده، وتقوى عليه نفسه، محملا نفسه ما يطيق، وما لا يطيق، من أجل نصر دين الله، ورفع راية الإسلام، ومن أجل كرامة الأمة، ذلك هو فعل أبو عبيدة، وتلك هي روحه الطاهرة، فأكرِمْ به، وأعظِمْ من أمين، خليق بالأمانة جدير بها.
رأى عمر في خلافته أن يولي أبا عبيدة قيادة جيوش المسلمين في بلاد الشام، فسار الأمين بالجيش نحو الشام لملاقاة الأخطار التي تواجه مصير الإسلام هناك من أعدائه المتربصين بالمسلمين، وهناك أثبت بطولة وبسالة، فحقق الانتصارات التي ضربت قوى الروم وقضت عليها، وتقدم يمضي من انتصار إلى انتصار، وينتقل من نجاح إلى نجاح، حتى فتح الله على يده ديار الشام وحررها من اضطهاد الرومان، فشاع فيها نور الإيمان، فكان أهلها من ثم يعرفون له بلاءه هذا، وعرفوا من قبل منزلته الجليلة في الإسلام، منذ أن بعث الله رسوله، كما عرفوا أيضا مكانته عند أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، الذي ألقى إليه قيادة جيوش المسلمين، مفضلا إياه على من سواه من كبار القادة، وأبطال الحروب، عرف أهل الشام كل ذلك، فراحوا يطلقون عليه لقب (أمير الأمراء).
ما كاد يعلم أبو عبيدة بما يقوله الناس عنه من حديث المديح والتبجيل، وما إلى ذلك من الافتتان بشخصه، حتى وقف على جموعهم يقول لهم، وهو المؤمن التقي، والقائد المتواضع:(يا أيها الناس، إني مسلم من قريش، وما منكم من أحد، أحمرَ ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في إهابه). أجل، ذلك هو المعنى الذي يعلمه الأمين أبو عبيدة، حق العلم، وأخذ يعلمه الناس، من أن التقوى هي رأس الدين، وأصل المرء، وميزان التفاضل، بها يكرم العبد عند ربه.
في يوم من الأيام، زار أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، الشام فعلم الناس بمجيئه فأقبلوا يستقبلونه مرحبين به فرحين بزيارته، فرأوه يقلب بصره كأنما يبحث عن شيء، وإنه لكذلك، حتى سألهم: أين أخي؟ أين هو؟ فعجب الناس، وتساءلوا فيما بينهم: ألي أمير المؤمنين أخ معنا؟!. والله إنا لا نعلم أن له أخا ههنا، فتُرى من يعني، فلم يجدوا بدا من سؤاله: من أخوك يا أمير المؤمنين؟. فأجابهم عمر: أخي أبو عبيدة، عامر بن الجراح، فما لبث أن رآه آتيا يشق طريقه بين زحام الناس، فأقبل عمر عليه، واعتنقه باشتياق بالغ، وفرح شديد، ثم صحبه أبو عبيدة إلى داره، وما تُرى هي داره؟ وما تحويه من متاع وأثاث؟. تعالَوْا فلننظر؟
دخل عمر الدار، فلم ير فيها شيئا مما يقتنيه الناس، ويعيشون به، لم يجد سوى أدوات القتال والجهاد، من سيف وتُرس ونحو ذلك، وشيء زهيد مما يُتبلّغ به في المعيشة، حصيرٌ بالٍ، وقُربة ماء خلِقة، ساعتئذٍ سأل عمر: يا أبا عبيدة، ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس؟. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يبلغني المَقيل. فقال عمر بتوجع: غيرتنا الدنيا كلنا، غيرك يا أبا عبيدة. وازداد عمر هنا محبة لأبي عبيدة، فوق محبته الأولى.
عاد عمر إلى المدينة، ثم بعد فترة من الزمن، ترامت إلى سمعه أنباء الوباء الذي دهى الناس في الشام، ذلك الطاعون الوبيل، الذي اجتاحهم، فحصد أرواحهم، وفتك بخلق كثير، فراعت عمر تلك الأنباء، فكتب رسالة إلى أبي عبيدة، قال فيها:(إني بَدَت لي إليك حاجة لا غنى لي عنك فيها، فإذا أتاك كتابي ليلا، فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إليّ، وإن أتاك نهارا، فإني أعزم عليك ألا تمسي حتى تركب إليّ)، أراد عمر رضي الله عنه، استبقاءه للأمة، فهو أمينها، وهكذا يعرف الرجالُ أقدار الرجال، فلا يُجحد ذو فضلٍ فضلَه. بلغ كتاب عمر هذا أبا عبيدة، فقال:(قد علمت حاجة أمير المؤمنين إلي، فهو يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ)، وكتب إليه:(يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين، ولا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم، ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله فيّ وفيهم أمره، فإذا أتاك كتابي هذا، فحلِلني من عزمك، وائذن لي بالبقاء).
لما قرأ عمر كتابه هذا، بكى وفاضت دموعه، فقال مَن عنده، حين رأوا حالته هذه: أمات أبو عبيدة، يا أمير المؤمنين؟. فقال عمر: لا، ولكن الموت منه قريب. ولقد صدق ظن عمر، وما كذب حدسه، إذ أصيب أبو عبيدة بالطاعون، وشاء الله أن يموت به، فتوفي رضي الله عنه، في أرض (عمواس)، سنة ثماني عشرة للهجرة، وله من العمر ثمان وخمسون سنة، وقام معاذ بن جبل في أهل الشام، قام النَّعِيُّ فأسمعا، ونعى الكريمَ الأروعا، فقال:(أيها الناس، إنكم فُجِعتم برجل، ما أزعم والله أني رأيت من عباد الله قط، أقل حقدا، ولا أبرَّ صدرا، ولا أبعد غائلة، ولا أشد حياءً، ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه)..
لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته
جاء الناعي المدينة بهذا النبأ الأليم، ونعى للمسلمين، أمين الأمة، فبكَوْا وحزنوا، أشدَّ البكاء والحزن.
وكان مبلغ النَعْي عظيما على أقواهم إيمانا، وأحزمهم نفسا، على عمر بن الخطاب، الذي بكى أخاه العزيز الكريم عليه، ولنا أن ندرك قدر أبي عبيدة عنده، فيما روي عنه أنه قال: (لو كنت متمنيا، ما تمنيت إلا بيتا مملوءاً برجال من أمثال أبي عبيدة). وما نسي عمر أبا عبيدة، بل ذكره حتى في أشق ساعة في الحياة، وهو يجود بأنفاسه، فقال: (لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي عنه قلت: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: هو أمين هذه الأمة).
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6639
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6495
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2697
| 28 أكتوبر 2025
