رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد المحمدي

مساحة إعلانية

مقالات

129

د. أحمد المحمدي

بعض المعارك في خسرانها شرف

07 ديسمبر 2025 , 04:00ص

حين يترسخ الوعي في النفس، ويستقيم ميزان العقل، ويهدأ اضطراب القلب، يبدأ الإنسان يرى عالمه الداخلي بمنظار أعمق مما كان يراه من قبل. 

فالمعارك التي كان يظنها بابا لإثبات الذات، تتكشف له يوما بعد يوم على حقيقتها: أبوابا تستهلك الروح، وتسرق العمر، وتبدد صفاء البصيرة. ومع نضج التجربة، يزداد إدراكه أن الوقت أعظم نعمة، وأن النفس أغلى أمانة، وأن الدخول في كل سجال ليس فضيلة، وأن ترك كثير من الخصومات رفعة لا يصل إليها إلا من تجاوز طور ردود الأفعال، وارتقى إلى مقام الوعي المؤسس على التعقل والحكمة.

والآية الكريمة: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾، ليست وصفا عابرا لأخلاق جماعة من الناس، بل هي رسم لصورة إنسان بلغ تمام الرشد؛ إنسان يعرف أن النزول إلى مستوى الجاهل خسارة قبل أن تكون مجادلة، وأن الرد على السفه قد يمنح لحظة انتصار، لكنه يسلب من النفس مقام الوقار. فالسلام الذي ينطقون به ليس هروبا من المواجهة، بل هو قوة في الترفع، وسيادة على النفس، وقدرة على أن يقول الإنسان لنفسه: لستُ مضطرا إلى كل ساحة دعيت إليها.

وفي الحديث النبوي الشريف: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) تبرز قاعدة ذهبية تختصر نصف الحكمة. فمن ترك ما لا يعنيه، إنما تركه لأنه عرف قدر نفسه، وعرف أن الخوض في ما لا ينفع يضيع العمر بلا ثمرة، ويثقل الروح بغير سبب. فمن أراد لنفسه صفاءً، ولعمره بركة، ولذكائه نموا، ولصوته وزنا، فعليه ألا ينشغل بما لا يعيده إلى ذاته بخير أو حكمة. وهذا الترك ليس ترفا، بل ضرورة يفرضها احترام الذات.

وفي هذا السياق يروي الجاحظ قصة تكاد تكون مرآة صادقة لهذا المعنى ؛ ففي البيان والتبيين أن رجلا من أهل الجدل – من أولئك الذين يتقنون إثارة الخصومات ويعشقونها – اعترض أعرابيا في الطريق وقال له:

«يا أخا العرب، أتحب أن نتجادل في مسألة؟»

فنظر الأعرابي إليه نظرة من فهم الدنيا أكثر مما فهمها خصمه، ثم قال: «أعلى العقل تتجادل؟»

فقال الرجل: «نعم».

فقال الأعرابي: «فقد كفيتك؛ لأن العقل يهدي فيما لا نفع فيه إلى السكوت، ومن طلب الجدال فقد خالفه».

ثم أدار ظهره وقال جملة تستحق أن تُكتب بماء الضياء:

«ما رأيت شيئا أذهب للوقار من خصومة لا تجلب نفعا».

فانصرف الأعرابي بهيبة، وبقي الرجل حائرا، وقد خسر اللحظة التي كان يأمل فيها أن يلمع صيته، وربح الآخر وقارا لا يُشترى.

هذه القصة ليست مجرد حكاية، بل هي فصل كامل في فن الحياة. إنها تعلمك أن الوقار لا يُصنع بالردود، وأن الحكمة لا تُولد من الانفعال، وأن العقول الكبيرة لا تركض وراء كل سجال. فليست كل معركة جديرة بالمشاركة؛ بعض المعارك مجرد ثقوب سوداء تبتلع الوقت والطاقة والسكينة. والعاقل لا يسمح لنفسه أن تُستدرج إلى ما يعلم مسبقا أنه طريق لا نهاية له.

وما أكثر ما نرى في حياتنا من معارك متخفية تحت عباءة الحق، لكنها في جوهرها صراعات، ورغبات إثبات، وتنافس على الغلبة لا على الحقيقة. يدخلها الإنسان بحماسة، ثم يخرج منها منهكا، وقد فقد شيئا من رصانته، وشيئا من صفائه، وربما شيئا من احترامه لنفسه. بينما قد يغادرها آخر منذ أول لحظة، مدركا أن الهزيمة الشكلية أكرم للنفس من الانتصار الذي يشوهها.

إن بعض الهزائم ليست إلا حماية من السقوط الأكبر. وبعض الانسحابات ليست إلا صعودا في سلّم النضج. فمن عرف قيمة نفسه عرف قيمة صمته، ومن عرف قدر عقله عرف قدر خصومه، ومن عرف الطريق الذي يمضي فيه لم يلتفت إلى من يلوّح له من جوانب الطريق داعيا إياه إلى معركة لا تُثمر إلا فراغا.

والنفوس الكبيرة لا يجذبها الصراخ، ولا يسحرها وهج الجدل، ولا تبحث عن انتصارات فارغة. تعرف أن الكلمة العالية ليست التي تُقال بصوت مرتفع، بل التي تحمل وزنا في ميزان الحق. وتدرك أن الرد السريع ليس دليلا على القوة، وأن التجاهل ليس ضعفا، وأن الصمت قد يكون أحيانا أعظم بيان.

ومن أراد أن يعيش بسلام، فليتعلم أن يحفظ قلبه من كل ما ينقص نوره. وأن يترك للخصومة طريقها دون أن يسير فيها، وأن يختار معاركه بعناية، وأن يتذكر دائما أن العمر ليس مساحة مفتوحة للمشاكسات، وأن أرباح الجدل قد تكون خسائر لروح لا تُعوّض.

إن الإنسان حين يكتمل رشده يرى أن أعظم ما يمكن أن يربحه هو نفسه، وأن أسوأ ما يمكن أن يخسره هو نفسه. لذلك كان بعض الخسران شرفا، وبعض التراجع قوة، وبعض الصمت انتصارا، وبعض الهزائم قمما من المجد الإنساني.

وبعد كل هذا، لا يبقى إلا أن نقول:

بعض المعارك في خسرانها شرف، من عاد منتصرا من مثلها انهزما

مساحة إعلانية