رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
طالت الخسائر غير المسبوقة على الاقتصاد العالمي لجميع الدول، ومن المتوقع أن تستمر فترة كبيرة لمعالجتها وستختلف الأمور من دولة لأخرى حسب ملاءتها المالية والاحتياطات النقدية التي ستمكّنها من الإنفاق على خطط التحول المطلوبة باقتصاد ما بعد كورونا. رغم الاتفاق على أهمية خطط التحفيز الضخمة التي رصدتها الحكومات حول العالم للتعافي من تداعيات الفيروس، إلا أنها حملت معها تأثيرات سلبية تستمر بالضغط على الاقتصاد العالمي بعد إنقضاء الجائحة.
صحيح أن خطط التحفيز المالي والنقدي كانت ضرورة قصوى لتجنّب الدخول في كساد عظيم، إلا أن هذه الخطط أغرقت العالم بالسيولة والقروض الرخيصة التي أغرت المتعثرين وغير المتعثرين في الاقتراض بنحو لافت رغم ضبابية المشهد الاقتصادي. وعلى أعتاب الخسائر التي أدّت إلى شلل في الاقتصاد العالمي، نتوقع أن تكون هناك دول غير قادرة على تخطي النتائج الفادحة التي خيّمت على نشاطها المالي والتجاري، وتبقی الدول القوية التي تمتلك الاحتياطيات الجيدة إضافة إلى الصناديق السيادية، هي المؤهلة لتخطي الركود المتوقع، كذلك بعض دول الخليج التي حافظت على أسس اقتصادية جيدة رغم الخسائر. إن دعم القطاع الخاص والعمل على إعادة برامج الإنفاق والتوجه نحو تنوّع الاقتصاد، كل ذلك سوف يعزز من الاستقرار في الاقتصاد العالمي.
التحفيز سلاح ذو حدين، لأنه في حالة تعافي الاقتصادات بصورة سريعة ورجوع الاقتصادات العالمية إلى ما كانت عليه، سيكون ذلك بمثابة تمويل قصير الأجل، ساعد في تعافي الأسواق والحفاظ على عدم حدوث خلل في الاقتصاد العالمي. في المقابل، في حالة عدم التعافي السريع سوف يدخل السوق العالمي في موجة من التضخم أو الكساد التضخمي، أي زيادة الأسعار مع انخفاض انعدام القدرة الشرائية لدى المستهلكين، مما يكون له أثر سلبي كبير على الاقتصاد. أظهرت تقارير أن هناك عددًا من القطاعات سوف تتصدر المشهد الاقتصادي العالمي جرّاء انتشار الفيروس، أولها: "الصيدلة والمعقّمات" والتي لمع بريقها مع انتشار الجائحة عالميًا، حيث تسبب الانتشار في تهافت الناس من جميع أنحاء العالم على الصيدليات بقصد شراء المطهرات والمعقمات والفيتامينات والأقنعة "الكمامات" وغيرها من الأدوية بهدف الاحتفاط بكمية مناسبة منها للاستخدام الشخصي.
وجاء قطاع التجارة الالكترونية ثانيًا حيث ازدادت عمليات الشراء عبر الانترنت نتيجة تجنب الأماكن العامة، وشهدت عمليات التجارة الإلكترونية المرتبطة بقطاع التجزئة نموًا ملحوظًا، بالإضافة إلى زيادة عدد زوار المواقع المخصصة بعرض المنتجات وزيادة أعداد الذين يقومون بعمليات الشراء، كما احتلت التطبيقات الذكية ثالث القطاعات المتصدرة، ففي ظل الوضع الراهن ورغبة العديد من العملاء في تجنب الخروج من المنزل والاختلاط بالعامة قدر الإمكان، ارتفع الطلب على التطبيقات الذكية التي تساعد في تقديم الخدمة عن بعد.
وجاء قطاع التعليم عن بعد وكل مخرجاته الاقتصادية رابع القطاعات الأكثر نموًا على المستوى العالمي، حيث قامت معظم دول العالم مؤخرًا بتطبيق نظام التعليم عن بعد في مدارسها وجامعاتها. وجاء قطاع تأسيس منصات الذكاء الاصطناعي خامس أهم القطاعات حيوية مع انتشار الجائحة عالميًا، حيث دخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي على خط المواجهة ضد تفشي كورونا بشكل كبير، وذلك من خلال استخدام البرامج التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لإيجاد الحلول المباشرة في ظل التباعد الاجتماعي المفروض.
أما علی صعيد القطاعات الأكثر تضررًا من جرّاء انتشار الجائحة عالميًا، كان قطاع السياحة والسفر الأكثر تضررًا، حيث تشهد معدلات السياحة العالمية تراجعاً ملحوظاً بسبب انتشار الجائحة، ويمثل التراجع ما نسبته 1-3. %
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إنه خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام تراجعت حركة السياح الأجانب إلى الدول بأكثر من النصف وتمت خسارة نحو 320 مليار دولار من العائدات السياحية، وقد تصل الخسائر الإجمالية لعام 2020 الى أكثر من 900 مليار دولار، بحسب أرقام الأمم المتحدة.
واحتلّ قطاع "الطيران" ثاني القطاعات الأكثر تضرراً، حيث تأثرت شركات الطيران بشكل خاص بانتشار فيروس كورونا بسبب تطبيق قيود السفر في معظم دول العالم، حيث قال الاتحاد الدولي للنقل الجوي "إیاتا" إن خسائر القطاع تبلغ 419 مليار دولار حتى الآن.
واحتل قطاع الفنادق وخدمات الضيافة ثالث القطاعات الأكثر تضررًا، ويشار إلى أن الأسعار المتعلقة بحجز الفنادق قد انخفضت بشكل كبير. ويمثل قطاع "التصدير" رابع أكبر المتضررين، حيث انخفضت صادرات الصناعات التحويلية في جميع أنحاء العالم، كما تضرر قطاع الخدمات اللوجيستية بسبب انتشار الفيروس. ويعد قطاع "التجارة والخدمات" أحد أهم المتضررين نتيجة الجائحة، كما أن قطاع السیارات يعتبر أحد أبرز القطاعات المتضررة عالميًا.
ذكر تقرير لمنظمة العمل الدولية، أن 200 مليون من الموظفين بدوام كامل فقدوا وظائفهم بسبب "كوفيد-19" بعد فرض إجراءات الإغلاق الكامل أو الجزئي في العديد من الدول، وما حمله ذلك من تأثير على نحو 2،7 مليار عامل، أي 4 من بين كل 5 من القوى العاملة في العالم. أنهك الوباء العالم، الذي توهّم أن الأوبئة القاتلة صارت جزءًا من الماضي، أنهك البشر وسجّل في القتل رقماً مخيفاً وفي الإصابات رقماً مقلقاً. أنهك الدول أيضا.، وهزّ الاقتصادات وشلّها وفكّك سلاسلها وعطّل مصانعها وأسكت الطائرات والقطارات، وضرب السياحة وترك الفنادق والمطاعم والأسواق في عهدة الفراغ والكآبة، كما دفع عشرات الملايين إلى البطالة وعدداً هائلاً من الشركات إلى الإفلاس. وأفقر الوباء الناس ووزّع عليهم أرغفة الخوف والقلق وأرغمهم على الإقامة وراء كماماتهم يتساءلون يومياً عن الأرقام القياسية الجديدة التي حققها هذا القاتل المتسلسل. وقَصَمَ الوباء ظهر المستشفيات وأصاب الأطقم الطبية، وضرب المحاصيل وألحق ضرراً فادحاً بالتعليم.
كان العالم في أمسّ الحاجة إلى بارقة أمل؛ أملٍ في اكتشاف اللقاح ووصوله إلى الجميع وأملٍ في تضميد جراح الاقتصاد العالمي على قاعدة التضامن في مواجهة الكارثة ومساعدة الدول التي ترزح تحت أعباء الديون أو الفقر. من حسن الحظ أن قمة الرياض لمجموعة العشرين بعثت برسالة الأمل هذه، عبر التأكيد على "توزيع عادل ميسَّر للقاحات" والتشديد على "حشد طاقات الدول المشاركة لمعالجة المشكلات الاقتصادية التي نجمت عن الجائحة". وقد بدأ العالم يلمس جدية هذه التأكيدات، على رغم من ملاحظة اللاعدالة الموصوفة والمعايير المزدوجة التي تطبّق وتميّز بين دول غنية وأخرى فقيرة.
ونحن نودع العام 2020، نرجو أن يحمل العام 2021 معه عودة الرجاء والأمل بانتهاء مرحلة تُعتبر الأسوأ في التاريخ الحديث، والبدء في إعادة ترميم وإعمار ما دمّرته جائحة أثقلت كاهل البشرية وهي ستترك ندوباً عميقة في مختلف قطاعاته الاقتصادية لأعوام طويلة..
وكل عام وأنتم بخير.
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
الهوينا كان يمشي، هنا فوق رمشي، اقتلوه بهدوءٍ، وأنا أهديه نعشي...... صدق القائل ومِنَ الحُبِ ما قَتل، هذا... اقرأ المزيد
168
| 31 أكتوبر 2025
بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
تُعتبر الأسرة الخلية الأولى في المجتمع وأحد أهم العوامل المؤثرة في بناء شخصية الطفل، حيث تُسهم في تكوين... اقرأ المزيد
171
| 31 أكتوبر 2025
الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
ظهرت للأسف من قبل أخصائيين غير مدربين على كفاءة وضمير مهني التجارة بمسمى العلاج وعدم الإدراك والفهم والوعي... اقرأ المزيد
102
| 31 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6639
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6501
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2697
| 28 أكتوبر 2025