رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
وكانت علاقة كلا الرجلين قوية جدا حيث دعم الشيخ قاسم الملك عبد العزيز عند ما قام بمحاولة استرجاع ملك أجداده الذي سقط للمرة الثانية وأصبح ابن رشيد يسيطر على نجد كلها كما كان الإحساء والحجاز تحت سلطة الأتراك العثمانيين. وكان عبد العزيز أحوج ما يكون للسلاح والخيل والمال حتى يستكمل فتوحاته فكان الشيخ قاسم ممن بذل المال والسلاح وكرائم الخيل دعما لعبد العزيز. وكان الشيخ قاسم يقوم بهذا الأمر من منطلق عقيدته السلفية فهو يعتبر أن حكم آل سعود يطبق الشرع ويبسط الأمن بينما يعود العرب لعادتهم من الغزو والسلب والنهب وأكل القوي للضعيف حالما يزول هذا الحكم.
وقد كنت سمعت من بعض كبار السن عن رسائل متبادلة بين الشيخ قاسم والملك عبد العزيز تسببت في سوء تفاهم وخلاف قصير لم يطل ولكن رد الشيخ قاسم الذي رد به على تهديد الملك عبد العزيز قد اشتهر ونسجت حوله الحكايات ولكن لم يعثر على نص الكتاب. وقد عثرت على نص الرسائل المتبادلة أثناء بحثي في مخطوطات تاريخ الجزيرة العربية.
وأنا أعرض هنا لما حدث بين الرجلين أود أن أنوه إلى أن الملك عبد العزيز هو في سن أبناء الشيخ قاسم. لذا فقد كان يجلّه ويقدّره كوالده. وعندما اضطر الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود للخروج من الرياض فقد لجأ إلى قطر ومعه أولاده وعائلته ومنهم عبد العزيز الذي كان صغيرا في ذلك الوقت وذلك لمدة ثلاث سنوات فأقاموا معززين مكرمين حتى قرروا الإنتقال إلى الكويت. وبعد أن تمكن عبدالعزيز من إزالة حكم
آل رشيد ودانت له معظم أنحاء الجزيرة فإنه لم يتردد في تلبية طلب الشيخ قاسم عندما احتاج لدعم عسكري فسار إليه على رأس جيش وقاتل أعداءه.
وقد وجدت نص الرسالتين المتبادلتين بين الشيخ قاسم والملك عبد العزيز في مخطوط لم يطبع بعد لمحمد العلي العبيد الذي كان تاجرا يتنقل بين مختلف مناطق المملكة
ويسجل ما يصل إليه من معلومات يستقيها مباشرة من كبار القوم الذين يتصل بهم.
وقد أورد الكاتب جزءا من قصة الملك عبد العزيز مع الهزازنة (وهم أمراء منطقة الحريق) وسجنه لعدد منهم وكانوا يبلغون أحد عشر رجلا وكان رأسهم راشد بن عبد الله الهزاني وأقاموا في حبسه سنة كاملة.
وقد سمعت جزءا من قصة هؤلاء وأن الشيخ قاسم كان عنده إمام من أهل (الحريق) وهي بلدة الهزازنة وتقع شمال غرب حوطة بني تميم، ولقد استعبر هذا الإمام في أحد الأيام أثناء قراءة بعض آيات الإبتلاء فاستدعاه الشيخ قاسم بعد الصلاة وقد أحس أنه مصاب في بعض أهله وسأله فقال إني تذكرت جماعتي الهزازنة المحبوسين في سجن ابن سعود فوعده أنه سيسعى لفك أسرهم.
أرسل الشيخ قاسم أحد رجاله مع رسالة للملك عبد العزيز يطلب منه فيها أن يفك أسرهم ويرسلهم إليه في قطر وبذل في ذلك ما يعد ثروة في ذلك الوقت، وقد فعلها رحمه الله لوجه الله تعالى. وكان ذلك في عام 1328 هـ (1910 م )
ويقول الكاتب العبيّد: ".... ثم إن الشيخ قاسم بن ثاني راجع عنهم عبد العزيز بن سعود وترجى منه وبذل 40،000 روبية على أن يطلقهم فأطلقهم وقبض عوض ذلك أسلحة. ثم إنهم توجهوا إليه ضيوفا ونزلوا عنده وأقاموا عنده سنتين. ثم إنه نزل عنده فهد بن سعد العرافه ضيفا (العرايف من آل سعود ولكنه من فرع منافس للملك عبدالعزيز على الحكم وحاربوه ولكنه هزمهم )، ثم نزل عنده أيضا عبد الله بن نادر أمير السليل من وادي الدواسر، وكان هذا الأخير يحب أبناء سعود الفيصل (العرافة )، فخاف عبد العزيز أن هؤلاء اجتمعوا عند قاسم وكلهم أعداء له، فكتب للشيخ قاسم كتاباً يتهدده فيه حتى يفسح لهم ويبعدهم عنه، وكان كتابه كما أخبرني به راشد الهزاني من رأسه وقد أطلعه عليه الشيخ قاسم بن ثاني وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل إلى جناب المكرم الشيخ قاسم بن ثاني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، تعرف أنك زبنت عدواني من الملا وجمعتهم عندك فهذا فهد العرافه عندك وهو يدوّر على راسي، وهذا عبد الله بن نادر وأنت تعلم وش أفعاله مع عيال سعود، وهؤلاء الهزازين عندك ولا يجهلك ما أجروه معنا. بالحاضر إذا وصلك كتابي هذا ترخّص لهم ويرحلون عنك، ولا يجلسون أكثر من ثلاثة أيام بعد وصول كتابي إليك، وإلا فإنت احتسب بضد ما عاملتك به سابقاً ليكون معلوماً والسلام.
وشرح الكاتب المقصود بذلك فقال " أي فيكون بعد السلم الحرب، وبعد الصداقة عداوة فاختر لنفسك ما ترى هو الأمثل".
ويستأنف فيقول " فلما قرأ الشيخ قاسم كتاب الإمام عبد العزيز أخذه المقيم المقعد
( أي انزعج غاية الإنزعاج) فدعا برجل من ضيوفه محنك قد عركته الحوادث فاختصر معه سراً، وأطلعه على كتاب عبد العزيز واستشاره فقال له المستشار يا حضرة الشيخ قاسم، هذا ملك حشو ثيابه الدهاء، وقد اعطي فكر ثاقب وغور عميق. وخطاباته تفلّ عزم عدوه حينما يتلقى منه الخطاب، ففي خطابات عبد العزيز سحر صائب، وقلما تجد من الرجال من يقابله بمثل ما يقول. وإني أرى اليوم معاملة الخطاب باللين لم يعد لها محل، فأنت عامله بالشدة والغلظة ولا توريه لين فيطمعه ذلك فيك ".
ويتابع المؤلف وصف ما جرى فيقول:
ثم إن الشيخ قاسم دخل على كاتبه في غرفة السر (وهي كناية عن المكتب الخاص للحاكم) وأمره أن يكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من الشيخ قاسم بن ثاني إلى جناب المكرم العزيز عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل
تحية ووقاراً، تلقينا كتابكم الكريم وتلوناه مسرورين بصحتكم ونهوض عزكم، وكان جوابنا لكم أن قلنا ونحن نقرأه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. وأما الجواب المودع ببطن الصحف فإليك نص خطابه، فقد ذكرت لنا في كتابك أننا نطرد عن ضيافتنا فلان وفلان، أما الهزازين فقد جاوبتك عنهم مراراً أيام كانوا في حبسك وبذلت لك جاهي ورجائي شافعا إليك بهم أن تطلعهم فلم تشفّعني فيهم، ثم
آل الأمر أن تجعلهم رقيقاً ومماليك يشرون بدراهم معدودة فاشتريتهم منك بمالي
( 40،000) ألف روبية دفعتها إليك وخلصتهم من حبسك ومن رقّك ودخلوا في رقّي أنا وحدي ولا فخر في ذلك. وأما فهد بن سعد آل سعود وعبد الله بن نادر فهم ضيوف عندي مكرمون، ومعاملتي للضيف: أحمله على رأسي وإن نزل من رأسي فعلى أكتافي إلى أن تحين الفرصة لمغادرتي رغبة منه، فحينئذ هو حر بنفسه ولن أجد مسوّغاً لمنعه، ومعاذ الله أن يتحدث العرب عن قاسم بن ثاني أنه طرد ضيفه وضيوفه. أما هذا الكتاب الذي أتاني منك تهددني به فهو خير جزائي منك حينما أتاني والدك عبد الرحمن الفيصل ومعه حريمه وعياله فأخرجت حريم آل ثاني من غرفهن وصناديقهن وملابسهن وأصواغهن وأنزلت حريمكم مكانهن، فكانوا جميعا في ضيافتي وهم في كل يوم لهم عندي عيد يتجدد حتى استكملوا عندي ثلاث سنوات، فرغبوا في الرحيل إلى الكويت فما وسعني أن أمنعهم فتركتهم وحريتهم.
فغاية ختام القول ان كنت ترى بنا ضعفا عنك وتشتهي حربنا فلا تذخر من قوتك بشيء، ولكل باغٍ مصرع والسلام عليكم.
فختم الكتاب، وكان رسول الملك عبد العزيز في انتظار رد الجواب. فاستدعاه الشيخ قاسم وبدّل مطيته بأطيب منها، وأمره أن يحث السير إلى الرياض.
وبعد أن مضى اثنا عشر يوماً لا غير فإذا عبد العزيز الرباع خادم الملك عبد العزيز قد أناخ مطيته عند باب الشيخ قاسم ومعه أهل أربع ركائب غيره يحملون من الإمام عبدالعزيز كتاباً وهو جواب لكتاب الشيخ قاسم بن ثاني، ونصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من الولد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى جناب الوالد المكرم قاسم بن ثاني الموقر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، على الدوام دمتم بأحسن صحة.
كتابكم الشريف وصل وكان جواباً لما كتبناه لكم، فنرفع لكم خطاباً بنية خالصة وهو أني أقول والله وبالله وتالله يا كتاب كتبته لك إني كتبته وشعوري غائبٌ عني في تلك الساعة وإني أراك مثل والدي عبد الرحمن الفيصل، ووالله لو في بطنك عشرة من
آل مقرن (وهم أجداد آل سعود) إني فلا أعاتبك عنهم، ولا تسمع مني ما يكدر الصفو بيني وبينك، فافعل ما شئت مع ضيوفك فليس لك لائم ولا معارض والسلام".
ويختم الكاتب بقوله: فبهذا كلٌ رضي على صاحبه وانحسم الخلاف. إنتهى ما نقلته من المخطوطة.
وأقول رحم الله الشيخ قاسم والملك عبد العزيز فكل منهما وحّد بلده ودافع عن كيانها حتى اعترفت بها كل الدول المجاورة والقوى الكبرى وكانت علاقتهما من القوة بحيث لا يؤثر فيها خلاف بسيط.
لقد استمرت العلاقة بين العائلتين الحاكمتين في قطر والمملكة السعودية خلال عهد العاهلين حتى انتقل الشيخ قاسم إلى رحمة الله واستمرت العلاقة بين الشيخ عبد الله بن قاسم والملك عبد العزيز إلى أن توفاهما الله. وكان الملك عبد العزيز يقدّر حكام قطر وأسرة آل ثاني تقديراً كبيراً ويكرم كل من يأتي للمملكة من أبنائها.
أما الشيخ قاسم بن محمد رحمه الله فإن فعله في حماية ضيوفه وإكرامهم وبذله المال في فك أسارى من رعايا بلد آخر لهو غاية في سمو الأخلاق العربية التي لا يوفق إليها إلا القلة النادرة من أفذاذ الرجال. بل إن فعله يصبح مما يذكر فيشكر على مر السنين،
وتسير به الركبان ويعتبر فخرا لأسرته وبلده. ولا ننسى ما وصفت به خديجة رضي الله عنها أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة حينما قالت: " والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق".
وإن المراقب للأحداث الأخيرة من أعمال الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أعزه الله ليرى فيها نفس الروح من نصرة الشعوب المظلومة ومساعدة الدول الضعيفة وإصلاح ذات البين واستضافة من نبذتهم بلادهم. ما يجعل أبناء قطر يشعرون بالفخر أن أصبحت بلدهم عاصمة وقبلة للمنطقة العربية والإسلامية. ونحمد الله أن وجد من ذرية الشيخ قاسم من يفعل فعله وأكثر. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الشيخ قاسم بن محمد هو من ذلك النوع من الرجال الأفذاذ الذين يصنعون التاريخ، وقد صنع لبلاده اسما ومجدا وحماها من كل أعدائها، وله الفضل على كل من يعيش على ثراها، فهو بحق مؤسس قطر ككيان مستقل ولن استطيع أن أوفيه حقه في مقال صغير.
ولكنني سأتناول هنا موقفاً تبرز فيه عبقريته ودهاؤه رحمه الله في مقابلة الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أحد الزعماء الكبار الذين برزوا في النصف الأول من القرن العشرين.
نُشر هذا المقال بتاريخ الخميس 20 محرم 1433 هـ / 15 ديسمبر 2011 م
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
يترقّب الشارع الرياضي العربي نهائي كأس العرب، الذي يجمع المنتخبين الأردني والمغربي على استاد لوسيل، في مواجهة تحمل كل مقومات المباراة الكبيرة، فنيًا وبدنيًا وذهنيًا. المنتخب الأردني تأهل إلى النهائي بعد مشوار اتسم بالانضباط والروح الجماعية العالية. كما بدا تأثره بفكر مدربه جمال السلامي، الذي نجح في بناء منظومة متماسكة تعرف متى تضغط ومتى تُغلق المساحات. الأردن لم يعتمد على الحلول الفردية بقدر ما راهن على الالتزام، واللعب كوحدة واحدة، إلى جانب الشراسة في الالتحامات والقتالية في كل كرة. في المقابل، يدخل المنتخب المغربي النهائي بثقة كبيرة، بعد أداء تصاعدي خلال البطولة. المغرب يمتلك تنوعًا في الخيارات الهجومية، وسرعة في التحولات، وقدرة واضحة على فرض الإيقاع المناسب للمباراة. الفريق يجمع بين الانضباط التكتيكي والقوة البدنية، مع حضور هجومي فعّال يجعله من أخطر منتخبات البطولة أمام المرمى. النهائي يُنتظر أن يكون مواجهة توازنات دقيقة. الأردن سيحاول كسر الإيقاع العام للمباراة والاعتماد على التنظيم والضغط المدروس، بينما يسعى المغرب إلى فرض أسلوبه والاستفادة من الاستحواذ والسرعة في الأطراف. الصراع في وسط الملعب سيكون مفتاح المباراة، حيث تُحسم السيطرة وتُصنع الفوارق. بعيدًا عن الأسماء، ما يجمع الفريقين هو الروح القتالية والرغبة الواضحة في التتويج. المباراة لن تكون سهلة على الطرفين، والأخطاء ستكون مكلفة في لقاء لا يقبل التعويض. كلمة أخيرة: على استاد لوسيل، وفي أجواء جماهيرية منتظرة، يقف الأردن والمغرب أمام فرصة تاريخية لرفع كأس العرب. نهائي لا يُحسم بالتوقعات، بل بالتفاصيل، والتركيز، والقدرة على الصمود حتى اللحظة الأخيرة.
945
| 18 ديسمبر 2025
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد تحديثٍ تقني أو خطوةٍ إدارية عابرة، بل كان دون مبالغة لحظةً كاشفة. فحين سمحت منصة (إكس) بقرارٍ مباشر من مالكها إيلون ماسك، بظهور بيانات الهوية الجغرافية للحسابات، لم تنكشف حسابات أفرادٍ فحسب، بل انكشفت منظوماتٌ كاملة، دولٌ وغرف عمليات، وشبكات منظمة وحسابات تتحدث بلسان العرب والمسلمين، بينما تُدار من خارجهم. تلك اللحظة أزاحت الستار عن مسرحٍ رقميٍّ ظلّ لسنوات يُدار في الخفاء، تُخاض فيه معارك وهمية، وتُشعل فيه نيران الفتنة بأيدٍ لا نراها، وبأصواتٍ لا تنتمي لما تدّعيه. وحين كُشفت هويات المستخدمين، وظهرت بلدان تشغيل الحسابات ومواقعها الفعلية، تبيّن بوضوحٍ لا يحتمل التأويل أن جزءًا كبيرًا من الهجوم المتبادل بين العرب والمسلمين لم يكن عفويًا ولا شعبيًا، بل كان مفتعلًا ومُدارًا ومموّلًا. حساباتٌ تتكلم بلهجة هذه الدولة، وتنتحل هوية تلك الطائفة، وتدّعي الغيرة على هذا الدين أو ذاك الوطن، بينما تُدار فعليًا من غرفٍ بعيدة، خارج الجغرافيا. والحقيقة أن المعركة لم تكن يومًا بين الشعوب، بل كانت ولا تزال حربًا على وعي الشعوب. لقد انكشفت حقيقة مؤلمة، لكنها ضرورية: أن كثيرًا مما نظنه خلافًا شعبيًا لم يكن إلا وقودًا رقميًا لسياسات خارجية، وأجندات ترى في وحدة المسلمين خطرًا، وفي تماسكهم تهديدًا، وفي اختلافهم فرصةً لا تُفوّت. فتُضخ التغريدات، وتُدار الهاشتاقات، ويُصنع الغضب، ويُعاد تدوير الكراهية، حتى تبدو وكأنها رأي عام، بينما هي في حقيقتها رأيٌ مُصنَّع. وما إن سقط القناع، حتى ظهر التناقض الصارخ بين الواقع الرقمي والواقع الإنساني الحقيقي. وهنا تتجلى حقيقة أعترف أنني لم أكن أؤمن بها من قبل، حقيقة غيّرت فكري ونظرتي للأحداث الرياضية، بعد ابتعادي عنها وعدم حماسي للمشاركة فيها، لكن ما حدث في قطر، خلال كأس العرب، غيّر رأيي كليًا. هنا رأيت الحقيقة كما هي: رأيت الشعوب العربية تتعانق لا تتصارع، وتهتف لبعضها لا ضد بعضها. رأيت الحب، والفرح، والاحترام، والاعتزاز المشترك، بلا هاشتاقات ولا رتويت، بلا حسابات وهمية، ولا جيوش إلكترونية. هناك في المدرجات، انهارت رواية الكراهية، وسقط وهم أن الشعوب تكره بعضها، وتأكد أن ما يُضخ في الفضاء الرقمي لا يمثل الشعوب، بل يمثل من يريد تفريق الأمة وتمزيق لُحمتها. فالدوحة لم تكن بطولة كرة قدم فحسب، بل كانت استفتاءً شعبيًا صامتًا، قال فيه الناس بوضوح: بلادُ العُرب أوطاني، وكلُّ العُربِ إخواني. وما حدث على منصة (إكس) لا يجب أن يمرّ مرور الكرام، لأنه يضع أمامنا سؤالًا مصيريًا: هل سنظل نُستدرج إلى معارك لا نعرف من أشعلها، ومن المستفيد منها؟ لقد ثبت أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحساب الوهمي قد يكون أخطر من طائرةٍ مُسيّرة، وأن الفتنة حين تُدار باحتراف قد تُسقط ما لا تُسقطه الحروب. وإذا كانت بعض المنصات قد كشفت شيئًا من الحقيقة، فإن المسؤولية اليوم تقع علينا نحن، أن نُحسن الشك قبل أن نُسيء الظن، وأن نسأل: من المستفيد؟ قبل أن نكتب أو نشارك أو نرد، وأن نُدرك أن وحدة المسلمين ليست شعارًا عاطفيًا، بل مشروع حياة، يحتاج وعيًا، وحماية، ودراسة. لقد انفضحت الأدوات، وبقي الامتحان. إما أن نكون وقود الفتنة أو حُرّاس الوعي ولا خيار ثالث لمن فهم الدرس والتاريخ.. لا يرحم الغافلين
906
| 16 ديسمبر 2025
يوماً بعد يوم تكبر قطر في عيون ناظريها من كأس العالم الذي أبهر وأدهش وأتقن، الى احتضان فعاليات كأس العرب. نعم نجحت قطر في جمع العرب في ملتقى استثنائي، بدأ بافتتاح مهيب وأسطوري اجتمعت فيه حضارة العرب وعاداتهم وأحلامهم ونجحت في تقديم فلسفة الاستاد خلال الأيام الماضية على أنه البيت العربي الكبير الذي يجمع العرب متجاوزين الحدود والفوارق. لقد تبيّن لنا أن هناك الكثير مما يجمع العرب، وليس حرف الضاد وحده، فها هي كرة قدم أظهرت أنهم يقفون ويستطيعون البناء وتقديم الأفضل، وأن هناك جيلا متفائلا يؤمن بالمستقبل وبأنه قادر على أن ينهض من تحت الركام، جيل جديد يتنفس عطاءً ويضع لبنات البناء الذي يعيد المجد لهذه الأمة. أما فلسطين فكانت حاضرة في هذا المهرجان الكروي، في تضامن ليس جديدا أو غريبا على قطر وشعبها، ولعل الأوبريت المؤثر حين جمع قصص الاناشيد الوطنية للدول العربية عبّر لكل الحاضرين والمشاهدين أن تحريرها ممكن وان وحدتنا ممكنة. قطر ومن جديد تجمع العرب في كأس العرب للمرة الثانية من المحيط الى الخليج في هذه الاحتفالية الكروية التي تعد الأكبر في العالم العربي، والسؤال الذي يطرح نفسه عن سرّ نجاح قطر مرة تلو الأخرى؟ لقد وضعت قطر بصمتها على خريطة العرب والعالم فأصبح يشار إليها بالبنان لما تمتلكه من قدرات استثنائية على استضافة الأحداث الرياضية الكبرى وتمثل كأس العرب فصلاً جديداً في هذا الإرث الرياضي الغني والمتنوع. قطر وخلال أعوام مضت وضعت رؤيتها، وحددت هدفها وسخرت امكاناتها، وبذلت كل ما تستطيع لتحقيق ما رأيناه من ترتيبات لإقامة كأس العالم على أرض صغيرة حجما، كبيرة بالفعل فكان لها ما أرادت واستقر الهدف وجاءت في هذه البطولة لتبني على ما تم انجازه وتعطي أكثر وأكثر. تمتلئ ملاعب قطر بالجماهير التي تحول ملاعب المونديال الأيقونية إلى مسرح جديد للإثارة الكروية العربية يستفيد فيها المشاركون والجماهير من منظومة متكاملة، أسست على أرقى المعايير البيئية العالمية، فهي لم تعتمد بناء ملاعب يطلق عليها مصطلح الأفيال البيضاء ببناء أبنية ضخمة لا داعي لها بل شيدت على مبدأ الاستدامة واستخدام أدوات صديقة للبيئة بحيث يمكن تفكيك وإعادة استخدام الملاعب وفق خطة مدروسة بمجرد الانتهاء منها سواء بإعادة تدويرها في مشروعات داخلية أو بالتبرّع بها وإهدائها إلى دول أخرى لرفع كفاءة منشآتها الرياضية إضافة الا أنها ملاعب بلا تدخين وملاعب يصدح فيها صوت الأذان انجاز مختلف ومقدر. يضاف إلى هذه الملاعب المونديالية، أنها استفادت من البنية التحتية الرياضية الواسعة التي أولت قطر اهتماما كبيرا بها بما في ذلك مرافق التدريب الحديثة، ومناطق المشجعين التي توفر تجربة ترفيهية متكاملة وفي نقطة تحسب لهذه الجهود تتضمن الملاعب خيارات أماكن مخصصة للمشجعين من ذوي الإعاقة. وهنا لا بد من ذكر تسهيلات حركة المشجعين من خلال شبكة منظمة من المواصلات فنجاحها يعد حجر الزاوية في انجاح البطولة فهي توفر شبكة نقل حديثة ومتكاملة تتمتع بسلاستها وفعاليتها مع وجود مترو الدوحة العمود الفقري للدوحة الذي يربط غالبية الملاعب والمناطق الحيوية في قطر خلال دقائق معدودة، بجانب منظومة نقل عام فعالة سلسة الحركة خلال الفعاليات الكبرى، فضلا عن طرق حديثة تساهم بصورة كبيرة في تقليل الازدحام وتعزيز انسيابية حركة الجماهير. وإلى جانب ذلك، يتوفر أسطول حديث من الحافلات الكهربائية الصديقة للبيئة لتقليل الانبعاثات الكربونية، وكذلك خدمة نقل عام مستدامة وفعالة تشمل "مترولينك"، والتي تتمثل في شبكة حافلات فرعية مجانية تربط بين محطات المترو والأماكن المحيطة. لقد ركزت قطر على الاستدامة عبر استخدام حافلات كهربائية وتقليل الاعتماد على السيارات الخاصة، وتوفير تجربة سلسة في نقل المشجعين مع الأخذ في الاعتبار احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة عند تصميم وسائل النقل والمحطات، وهو الأمر الذي يساعد على ترك إرث مستدام لقطر يعزز من مكانتها كمركز للفعاليات العالمية. وبينما تدار المباريات من جهة تقام مجموعة من الفعاليات الثقافية والترفيهية لتعزيز تجربة المشجعين وخلق أجواء إيجابية وبناء جسور بينهم حيث ترحب قطر بهم بطريقتها وبحسن وكرم الاخلاق والضيافة. أي انجاز هذا، خطوة ٌتحسب وتقدر ونقطةٌ بألف هدف، فقطر تربط استثمارها بالرياضة بتحقيق نمو اقتصادي وسياحي وفي نفس الوقت وفي هذا المحفل العربي الاخوي تزيل اسباب الفرقة وتقرب المسافات في تجمع لم نكن نراه او يشهد له في من سبقها من فعاليات لكأس العرب. أي انجازٍ هذا في أكبر تجمع عربي، إذا هي الارادة الجادة والحقيقية المنتمية، تغلفها الشجاعة والاقتدار الساعية لبث الخير. قطر لا تمتلك المال فقط، إنما هي تتبع قواعد النجاح وتركز على الإنسان وفكره وتطويره، لا تترك جهدا ً في الاستفادة من خبرات الآخرين والتعلم منها والبناء عليها، وتعطي الفرص وتمنح المساحات للعطاء لمن يريد من القطريين أو غيرهم ممن يعيشون على أرضها. من استاد ملعب البيت كان الافتتاح، ولن تكون النهاية، لقد أصبحت قطر على الدوام البيت الذي يجمع ولا يفرق يلم الجراح ويبث الطمأنينة. الأمل يحدونا لأن نزيد ما تم بناؤه فكريا وروحيا ومعنويا في قطر، وفي غيرها من شقيقاتها من الدول العربية والإسلامية، حتى نغدو منارة يهتدى بنا.
690
| 15 ديسمبر 2025