رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لو تساءلنا مثلاً عن أثمن شيء في الكون فماذا ستكون الإجابات؟ يا ترى ما الذي تفكر به؟! ما الذي يخطر ببالك؟! أكاد أجزم أن هناك الكثير من الاستفهامات تتراقص في مخيلتك؟ لقد طرحت السؤال على أكثر من شخص فماذا كانت الإجابات؟! قد أثرت بسؤالي حفيظة التفكير، وشحذت همم الفضول، للبحث عن إجابة عن هذا السؤال الذي ربما يدق لأول مرة أبواب الخواطر والأفكار، أو ربما كنا نرى أشياء كثيرة ثمينة، فلم نتمكن من المفاضلة بينها، ولكن أن يُطرح السؤال بشكل مباشر في رسالة نصية عبر تطبيق الواتساب، فهذا لم يكن متوقعاً، كنت أشعر بأصدقائي وقد وثبت مشاعر الدهشة على محياهم، خصوصاً أنهم لم يتعودوا أن يُسألوا مثل هذه الأسئلة على مثل هذه التطبيقات، التي تندح بالعبثية، فكانت المفاجأة التي أربكت مخيلتهم، وأرعشت أسلاك أذهانهم.
احتار الكثير وربما البعض لم يفكر يوماً في هذا السؤال! فمعظم الإجابات انحصرت في إدراكهم الشخصي لهذا الكون، ومعظمها كانت تدور حول الماديات التي علقت الإنسان من رقبته وهو يدور في حلقات ضائعة لا ينفك يبحث عنها، أو أدوات سخرها الله لهذا المخلوق العظيم، نعم العظيم والأغلى والأثمن. إنه أنت أيها الإنسان، أنت الأكثر قيمة، أنت الغالي، أنت النفيس، أنت سيد هذه الأرض التي سخرها الله لك، في خدمتك وطوع أمرك، ولكن لكي تستطيع أن تحكمها يجب أن تعرف قيمتك قبل قيمتها، وتستشعر قوتك قبل قوتها، فأين تكمن قيمتك؟
أنشأت المدنية الحديثة، المدينة الساحرة، التي كنا نتخيلها في قصص الأطفال، ولكن هذه الأخيرة قد فاقت كل التخيلات والتصورات، فقد ذابت فيها الحدود، وتزاوجت المسافات، وتمازجت الأصوات، وتماهت الأمزجة، وأصبحت الأخبار التي تحدث في مشارق الأرض ومغاربها تستقر بين كفوفنا، نقلب كلماتها وصورها برؤوس أناملنا، لعمري تلك معجزة لم تتصورها العقول في ماضي الأزمان، وها هي ذي الآن، قد ضربت جذور الأمم، فتعلقت ببعضها وتشابكت، فلا سدود ولا متاريس، ولا موائل أو تضاريس، وعلى هذه الحال؛ فلا عقائد راسخة، ولا أعراف وتقاليد مستقرة، ولا من رأي إلا ويفنده ألف رأي، ولا من اتجاه إلا ويشككه ألف اتجاه، تنافس، تطاحن، اضطراب وفوضى، فوران وغليان، كل هذا جعل الإنسان مخلوقا أنهكه الدوران في عجلة تجري بلا هوادة، تتجه نحو كل شيء سواه، فيعطي لكل شيء قيمة ووزنا إلا نفسه، فكيف له أن يرى قيمة نفسه، وهو على هذا المقام!! كفريسة تتنازعها الوحوش الضارية من كل جانب، فغفل عن تسعير قيمة نفسه في سوق كثرت فيه السلع، فانصرف يقيم كل شيء إلا الإنسان.
ذلك المخلوق الذي شرفت الأرض بنزوله من السماوات، فبارك بأقدامه الطيبة ثراها الواسع، ولا تزال الأرض مخلصة لهذا المخلوق العظيم مذ وطأها الوطأة الأولى، فكانت نعم المستضيف، شملته بكرمها وإحسانها، فاحتضنته في بطون جبالها، وسقته من أنهارها، وأطعمته من خيراتها، وكيف لا وهي المسخرة بأمره لخدمة هذا الضيف الشريف، فيمشي في أقصاها وأدناها لا يحمل هماً، وأي هم يحمله وفي السماء وعد برزقه وتدبير أمره أينما كان! فما أعظم قدره عند خالقه، الذي نفخ فيه من روحه، فكرمه وسواه فعدله، فكان أعظم الشواهد على وجوده سبحانه، فهو غاية الوجود وجوهره، فما غايته من نفسه؟!
إن كانت تلك حاله، وذلك شأنه في السماوات والأرض، فبماذا يمكن أن نزنه؟ وكيف يمكن أن نقدر قيمته؟ تالله إنه فوق كل الموازين ولا يمكن أن يقدر بثمن! وإذا كان لابد من وجود ما يهم الإنسان ويُثقل به صدره – لأننا في الواقع وفي أحيان كثيرة نبحث عن الهموم أو عن أي شاغل يلهب نار خواطرنا، ونهاجس به صدورنا - فهو معرفة غايته من وجوده، ومعرفة نفسه، والتي تعني معرفة الله، ومعرفة الله تعني المعرفة والتفكر والقدرة على كل شيء، والتحرر من كل القيود التي قد تعيق طريقه إلى سبيل المعرفة، بيد أن الحال ليست كما أرى، ولم يعرف الإنسان حق قيمته بموازين السماء العادلة، وإنما احتكم إلى موازين شرعها لنفسه، فهوى بين ضرام الهموم، ومواقد الفتن، وكان فريسة سائغة للضغائن، والذل تؤام الكبرياء والغطرسة والغش والحذر المذموم، وأصبح الصدق والأمانة والعدل واللين والمحبة كعنقاء مغرب !!
تلك الموازين التي فاضلت بين الناس فقدمت أصحاب المال والجاه والسلطان، سليلي النسب والحسب، أصحاب الثقافة الرفيعة والمقامات والدرجات والرتب والمناصب، أصحاب الجمال والأناقة واللياقة، فأولتهم الصدر، وأطعمتهم الشحم واللحم، أما العظام وفتات الطعام والغبيبة، فكانت غنيمة أولئك الذين يقفون في آخر الصف، لا تشفع لهم أوضاعهم ولا حتى إنسانيتهم، تلك المعايير الغاشمة، التي قدمت الموارد على أصحابها، فتناحروا على المعادن والنفائس، فسيقت أرواح الناس فداء لها، وبجلت الماديات فجعلتها أهم وأثمن من مستعمليها والمحتاجين إليها، وقيمت كل شيء بميزان لم ينزل الله به من سلطان، أما الإنسان فليس له قيمة في عالم أعظم قوة فيه هي المادة، وأضعف ما فيه هو الإنسان!!!
هذا القلب السافر لميزان الحق المقدس الذي وزن الله به الإنسان، وشرف مكانته، وعظم قدره بين مخلوقاته جميعاً وإن جسمت، فجعله خليفة له على هذه المعمورة، يأتي الإنسان بجهله وعنجهيته وغروره وحماقته لينسفه نسفاً من عروقه، فلا يرضى به ولا يحتكم إليه.
ويا وجعي على أجيال، توارثت هذه العقلية، بل وترعرعت في أحضان مدارس، ملأت رؤوسها بشتى العلوم، ولم تبذل جهداً في تعليمها قيمة ذواتها، وعقلها وفكرها.
هذا هو عالم اليوم، الذي يعيش بذهنية التنافس والتنازع والظفر، وتتجاهل ذهنية الإنسانية والعدل والصفاء، فمن عرف قيمة نفسه عرف قيمة الآخرين، فكما يسري الدم في عروقك يسري في عروقي، وجميعنا نتشارك الأرض التي اختارها الله سكناً لنا، ونتقاسم الهواء الذي هو زاد أرواحنا، وجميعنا نحمل من روح الله المقدسة، جئنا منه، وغايتنا معرفته وعبادته، وننتهي إليه، كما خلقنا في أول صورة، فبم تمتاز عني وعنه؟؟!!
يشهد قطاع الرعاية الصحية في قطر ثورة رقمية مع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض وعلاجها. ومع... اقرأ المزيد
384
| 23 أكتوبر 2025
من الأوقات الصعبة على أيِّ مبدع أن ينتهي من كتابة رواية أو ديوان، وتتوقف الروح لبعض الوقت عن... اقرأ المزيد
189
| 23 أكتوبر 2025
القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى، وسلامةٌ تُصان، وحياةٌ تُدار بانسيابية ومسؤولية. لا أحد ينكر مدى... اقرأ المزيد
360
| 23 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4857
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3618
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2877
| 16 أكتوبر 2025