رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
دخل مشروع القرار الفلسطيني المقدم إلى مجلس الأمن الدولي، والرامي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة وفق جدول زمني محدد، مرحلة تكسير العظام خاصة في ظل ما بدا واضحا أنه تهديد أمريكي باستخدام حق النقض الفيتو عن طرحه للتصويت، بعد انتهاء المشاورات بين الأطراف المختلفة سواء عربيا أو أوروبيا أو أمريكيا، رغم أن المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية لم تؤكد هذا المنحى لكنها أشارت إلى أن بلادها تعترض على المشروع، وهو ما فسره محلل سياسي في واشنطن بأنه لا يحمل سوى معنى وحيد، يتمثل في اللجوء إلى استخدام الفيتو فهو السلاح الذي تجيده الإدارة الأمريكية، لإجهاض أي قرار يعرض على مجلس الأمن يتعلق بحليفتها الإستراتيجية ذات الطابع الاستثنائي في المنطقة، الأمر الذي تسبب في قطع الطريق على كل الحلول التي طرحت في السابق لإنهاء الصراع العربي الصهيوني.
ومع ذلك فإن ثمة حرصا وإصرارا فلسطينيا، مدعوما من الجامعة العربية ووزراء الخارجية العرب للمضي قدما على طريق التصويت على مشروع القرار، بعد أن تقدمت الأردن الدولة العربية العضو في مجلس الأمن به بالفعل ليلة الأربعاء الماضي، باعتبار أن ذلك يعكس التطبيق الحي لخيار الدولتين والذي يحظى بإجماع إقليمي ودولي، ولكنه لم يصل بعد إلى مرحلة اقتناع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني به لترجمته على الأرض.
وعندما حانت اللحظة من خلال التوجه الفلسطيني إلى مجلس الأمن أصيب قادة الكيان بالذات بالهلع والرعب، إلى حد اعتبار الخطوة إعلان حرب من قبل الفلسطينيين ضد الدولة العبرية، حسبما عبر عن ذلك وزير الدفاع "موشيه يعالون"، بينما اعتبر وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان خطوة عدوانية أخرى من جانب السلطة الفلسطينية، ووصل الأمر إلى حد التهديد بحل السلطة الوطنية بقيادة الرئيس محمود عباس – أبو مازن- لأنه يواصل قيادة إجراءات لا تستهدف إلا مشاكسة إسرائيل، دون أن تعود على الفلسطينيين أنفسهم بأي فائدة - على حد قول ليبرمان - القادم إلى وزارة الخارجية من رحم التطرف اليهودي، فضلا عن التوسع في المشروع الاستيطاني الصهيوني إلى مناطق جديدة في القدس المحتلة والضفة الغربية.
واللافت أنه قبل أن تبدأ الاتصالات، من قبل الوفد الوزاري العربي في باريس يوم الإثنين الماضي مع وزيري خارجية فرنسا والولايات المتحدة، سارع جون كيري إلى استدعاء بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الكيان الصهيوني إلى مقابلته، وكان آنذاك يزور العاصمة الإيطالية –روما – فخرج الأخير، معلنا رفضه للتوجه إلى مجلس الأمن، وهو ما يعني أن كيري لم يتمكن من إقناعه - أو بالأحرى لم يحاول - بإمكانية القبول بالطرح الفلسطيني، الذي يتضمنه مشروع القرار مستهدفا إنهاء الاحتلال في فترة زمنية تستغرق عامين، وهو ما أكده نتنياهو قبل أيام بقوله خلال لقائه بمجموعة من الدبلوماسيين الإسرائيليين، بأنه لن يوافق على أي إملاءات أحادية الجانب سواء من قبل المجتمع الدولي أو مجلس الأمن - حسب تعبيره - وأن أبو مازن لن يستطيع تهديد الإسرائيليين، فهو غير مستوعب لنتائج الإجراءات التي يقوم باتخاذها في مجلس الأمن والتي ستصب في صالح سيطرة حماس على الضفة الغربية، مثلما حدث من قبل في قطاع غزة.
وتؤشر هذه المواقف المعلنة سواء أمريكيا أو إسرائيليا، بأن استخدام الفتيو من قبل واشنطن بات مرجحا للغاية حسب ما يقوله الدكتور طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ونائب رئيس المركز القومي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، وإن كان من ناحية أخرى يرى أن التعديلات التي أدخلتها فرنسا على مشروع القرار الفلسطيني، قد تدفع واشنطن إلى ترك القرار يمر، في ظل الضغوط الإسرائيلية التي تمارس على إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لوقف هذا التوجه الفلسطيني، دون أن يستبعد في الوقت ذاته إمكانية حدوث مفاجآت خلال الساعات المقبلة، تتمثل في إعلان الإدارة الأمريكية عن تقديم ضمانات إلى القيادة الفلسطينية، من أجل سحب مشروع القرار وهو أمر سيصعب عليها الإقدام عليه، في ظل عدم ثقتها في الموقف الأمريكي ولا في إمكانية الوصول إلى تسوية في ظل وجود حكومة بنيامين نتنياهو.
في ضوء هذا التطور المرتقب من قبل الإدارة الأمريكية، فإن الجانب العربي يحذر من مخاطر اللجوء إلى استخدام الفيتو فهو- وفقا لما أكده لكاتب السطور السفير محمد صبيح الأمين العام المساعد للجامعة العربية لشؤون فلسطين والأراضي المحتلة - سيضر بالقضية الفلسطينية، وسيستغله المتطرفون، وسيعلي في الآن ذاته من سقف الإحباط واليأس على نحو يسهم في تأجيج التوتر الراهن في المنطقة، ومن ثم يتطلع إلى أن تتجاوب الولايات المتحدة مع الجهود الرامية لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة، وفق سقف زمني محدد، وذلك من خلال تجنب اللجوء إلى استخدام حق النقض – الفيتو- ضد مشروع القرار الفلسطيني، وأن تتبنى في المرحلة الراهنة موقفا جديدا يساعد على تكريس السلام في الشرق الأوسط، وينهي الصراع العربي الفلسطيني الذي يمتد إلى أكثر من ستة عقود مستندا في ذلك إلى قناعة لديه بأن واشنطن هي من تقبض إنقاذ المنطقة، إذا ما وافقت على مشروع القرار الأمر الذي من شأنه أن يعيد الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى خيار المفاوضات، الذي سيقود إلى إنهاء الاحتلال وإعلان الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل وفق حل الدولتين.
وثمة تفاؤل لدى السفير صبيح في ضوء ما يشهده مجلس الأمن حاليا من مشاورات واتصالات، لإجراء بعض التعديلات على مشروع القرار المقدم إليه، وذلك بهدف أن ينال أكبر مساحة من التأييد له سواء من قبل الأعضاء الدائمين بالمجلس، أو من الدول غير الدائمة العضوية أو المجموعات الدولية في الأمم المتحدة، ويقول: إن ممثلي المجموعة العربية في نيويورك، وكذلك الأمانة العامة للجامعة العربية وعددا كبيرا من وزراء الخارجية العرب، قاموا خلال الساعات الأخيرة بتكثيف اتصالاتهم مع أعضاء مجلس الأمن وغيرهم من أطراف مؤثرة في المنظمة الدولية، من أجل الوصول إلى مشروع قرار يحقق أهداف التحرك العربي وفي الوقت نفسه يستجيب لمطالب بعض الأطراف الأخرى، ويشير إلى أن هناك في هذا الصدد مشروع قرار فرنسي إلى جانب المشروع الفلسطيني المدعوم عربيا، فضلا عن أنباء تتحدث عن مشروع قرار أمريكي لم يطرح بعد لكنه يشدد على أهمية ألا تخل عملية التوافق التي تسعى إلى بلورتها المشاورات الحالية في مجلس الأمن بالهدف الأساسي الذي تسعى إليه القيادة الفلسطينية والجانب العربي، والمتمثل في تحريك المياه الراكدة للوصول إلى مفاوضات حقيقية وجادة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وتحديد موعد لانسحاب القوات الإسرائيلي، وكذلك تحديد زمن للمفاوضات وللوصول إلى الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وهو ما يحظى بموافقة الجميع ماعدا إسرائيل وبعض الأطراف الدولية المساندة لها.
وبالطبع يتبقى السؤال الجوهري: ما العمل أمام الفلسطينيين في حال اللجوء الأمريكي إلى استخدام حق النقض لإجهاض مشروع القرار الفلسطيني؟ الإجابة قدمها الفلسطينيون أنفسهم عبر مسارين، جسد أحدهما الخيار السياسي من خلال طلب الانضمام إلى المنظمات والاتفاقيات والبروتوكولات الدولية التابعة للأمم المتحدة، وفي مقدمتها محكمة العدل الدولية والأخيرة تتيح المطالبة الفلسطينية بالتقدم إليها لإجراء محاكمات لقادة الكيان الصهيوني، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة إنسانية ضد الفلسطينيين، وهو خيار يحبذه الرئيس محمود عباس وأعلن عنه بوضوح خلال الساعات الأخيرة نبيل شعث مسؤول العلاقات الدولية باللجنة المركزية لحركة فتح، بينما الخيار الثاني ينزع إلى العودة إلى خيار الانتفاضة الشعبية وإعلان المقاومة وهو ما تميل إليه قيادات راديكالية بفتح وأغلبية الفصائل الفلسطينية الأخرى.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6621
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6489
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2670
| 28 أكتوبر 2025
