رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مثلما قدمت المملكة المغربية نموذجا للاستثناء في التفاعل الذي بدا إيجابيا مع الربيع العربي في زمانه، فإنها قدمت أخيرا نموذجا مماثلا لتفريغه من مضمونه.
(١)
تتردد في كتابات النشطاء والمدونين المغاربة في الأسابيع الأخيرة، عبارات مثل «عودة المخزن إلى صدارة المشهد» و«إغلاق قوس الحراك الديمقراطي» و«الفوز في الانتخابات تحول إلى هزيمة سياسية»، و«أهم نجاحات الثورة المضادة»... إلخ. وهي العبارات التي تختزل ست سنوات من خبرة السياسة المغربية، التي بدا أنها دخلت منعطفا جديدا مع هبوب رياح الربيع العربي في عام ٢٠١١، وتلك خلفية لا مفر من استدعائها.
آنذاك، بعد نجاح ثورة الشعب التونسي وسقوط نظام بن علي، وهروبه، وكذلك انطلاق شرارة الثورة في مصر، كان لذلك الحراك صداه القوي في المملكة المغربية، ذلك أن مليكها محمد السادس كان قد ورث نظاما بوليسيا سلطويا لم يختلف كثيرا عما كان عليه الحال في تونس ومصر، وربما كان أشد، ورغم أن الملك بعد توليه العرش في سنة ١٩٩٩ حاول امتصاص غضب المغاربة وسخطهم من خلال تشكيل «لجنة الإنصاف والمصالحة»، إلا أن التجربة أثبتت أن رحيل الملك الحسن لم يغير كثيرا في النظام وأدائه نظرا لرسوخه وعمقه التاريخي.
حين هبت رياح التغيير في بداية عام ٢٠١١، كانت الساحة المغربية جاهزة لاستقبالها. ذلك أن بعض الشباب المغاربة سارعوا إلى إعداد مقطع فيديو قصير دعوا فيه إلى التظاهر يوم ٢٠ فبراير لإعلان المطالبة بالإصلاح. وكان للدعوة صداها السريع، إذ ظهرت بعده تسجيلات عدة مؤيدة ومؤازرة له. وظلت كرة الثلج تكبر ومعها ظل صوت الدعوة للتغيير يعلو، إلى أن ذاع خبر انتصار الثورة المصرية وتنحي الرئيس مبارك في ١١ فبراير. حينذاك قررت ٢٠ هيئة حقوقية مغربية يوم ١٧ فبراير الانضمام إلى الحركة الاحتجاجية وتأييد انتفاضة ٢٠ فبراير. وفي اليوم نفسه (١٧ فبراير) عقد شباب حركة ٢٠ فبراير مؤتمرا صحفيا في مقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أعلنوا فيه صراحة مطالبهم التي حدودها في أمور عدة هي: إقامة نظام ملكي برلماني ــ وضع دستور ديمقراطي جديد ــ حل البرلمان وإقالة الحكومة.
(٢)
لأن الغضب كان عاما وعارما، كما أن المطالب كانت كلها إصلاحية بالدرجة الأولى، مع الديمقراطية وضد الاستبداد والفساد، ولأن الرياح بدت شديدة في العالم العربي، فإن الموجة بدت أعلا وأقوى من أن تتصدى لها المؤسسة الأمنية. وحين أدرك الملك ذلك فإنه سارع إلى ضم صوته إلى الدعوة للتغيير، ووجه خطابا يوم ٩ مارس، وصفته بعض الصحف بأنه «ثوري»، عبر فيه عن تجاوبه مع طموح الشارع المغربي، فدعا إلى تعديل الدستور وشكل لجنة استشارية لذلك الغرض، حتى بدا وكأنه رفع شعار «الشعب يريد وأنا معه».
الدستور الجديد بعد تعديله أشاع بعض التفاؤل. إذ نص على الفصل بين السلطات واحترام استقلال القضاء. كما أنه وسع من اختصاص الوزير الأول (رئيس الوزراء) بحيث أصبح هو المسؤول عن إدارة الحكومة وليس فقط منسقا بين الوزراء. كما نص على اختيار رئيس الوزراء من الحزب الفائز بأعلى الأصوات في الانتخابات. الأمر الذي بدا تعبيرا عن احترام نتائج صناديق الاقتراع. واعتبر الأمازيغية لغة وطنية إلى جانب العربية، في تعبير آخر عن احترام التعددية العرقية والإثنية. ووصفته بعض وسائل الإعلام باعتباره نقلة أحدثت ثورة سياسية وثقافية في المملكة،
(٣)
كان حزب العدالة والتنمية (الذي بدأ باسم حركة التوحيد والإصلاح) جزءا من الخارطة السياسية وفي المعارضة منذ ١٤ عاما. إذ بدأ في عام ١٩٩٧ بتسعة مقاعد في مجلس النواب، أصبحت بعد ذلك ١٤ مقعدا وتضاعفت إلى ٤٢ مقعدا (في سنة ٢٠٠٢) ثم ٤٦ مقعدا في الانتخابات التالية. إلا أن أجواء الربيع العربي مكنت الحزب من تقدم الصفوف والفوز بـ١٠٧ مقاعد في عام ٢٠١١.
المناخ الذي أتاح فرصة الفوز، كان له دوره في تيسير تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة الأمين العام للحزب السيد عبد الإله بنكيران. وقد اشترك معه فيها ثلاثة من أحزاب الوسط السياسي هي: حزب الاستقلال والحركة الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية. ولم تكن مهمة الحكومة سهلة ولا كان الطريق أمامها ممهدا. إذ فضلًا عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتحديات الفساد التي يعانى منها المجتمع المغربي، فإن مراكز القوى في الدولة لم تكن سعيدة بالتركيبة الجديدة للحكومة التي أفرزتها أجواء الربيع العربي، خصوصا أنها جاءت بوزير أول ينتمي إلى حزب له مرجعيته الإسلامية. فالقصر كان يراقب وحلفاؤه من أصحاب المصالح وعناصر الدولة العميقة ظلوا كامنين ومتربصين. أما الخصوم السياسيون والفكريون فقد ظلوا في الواجهة يناوؤن ويتصيدون. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن أجواء تلك المرحلة اقتضت إقامة «هدنة» نسبية على المسرح السياسي، خصوصا أن رئيس الحكومة حرص طوال الوقت على أن يحتفظ بعلاقة إيجابية مع القصر، وهو يحاول تنفيذ برنامج حكومته في الإصلاح ومكافحة الفساد. ويذكر له في هذا الصدد أنه قام بإصلاح صندوق المقاصة الذي كان يدعم السلع الأساسية، كما أن حكومته رفعت أسعار بعض السلع (المحروقات والكهرباء وبعض السلع الغذائية)، إلا أنها بالمقابل دعمت صندوق التضامن الاجتماعي ورفعت معاشات المتقاعدين وزادت من دعم الأدوية لتخفيض أسعارها ورفعت نسبة الطلاب المستفيدين من المنح... إلخ.
ما يثير الانتباه، أن رفع الأسعار لم يؤثر على شعبية الحكومة. دلت على ذلك نتائج الانتخابات الأخيرة التي أجريت في ٧ أكتوبر من العام الماضي (٢٠١٦)، ذلك أن حزب العدالة والتنمية لم يحتفظ بصدارته للفائزين فحسب، وإنما ارتفع عدد المقاعد التي حصدها، إذ فاز بـ١٢٥ مقعدا مقابل ١٠٧ مقاعد في انتخابات عام ٢٠١١، وكان الحزب قد فاز برئاسة البلديات في أهم المدن المغربية في الانتخابات التي جرت في العام السابق. إلا أن ذلك الفوز في الانتخابات التشريعية والبلدية تم في مناخ مختلف ــ بل مناقض تماما ــ لذلك الذي هبت رياحه على العالم العربي عام ٢٠١١.
(٤)
الحكومة التي تشكلت في أجواء انطلاق الربيع العربي لم يكن مستغربا أن تختلف عن تلك التي أريد لها أن تتشكل في أجواء انتكاسته، لذلك لم يكن مفاجئا أن تنتهي الهدنة التي كانت منعقدة ضمنا بين الفرقاء في عام ٢٠١١. وكانت النتيجة أن بنكيران الذي استطاع تشكيل حكومته في عام ٢٠١١، جرى إفشال محاولته حين كلف بالمهمة ذاتها في عام ٢٠١٦. فالذين تراجعوا وسكتوا في عام ٢٠١١ تقدموا وارتفعت أصواتهم، والذين كمنوا ظهروا مرة أخرى على المسرح، والذين راقبوا أصبحوا أكثر جرأة في فرض شروطهم. كما أن القوى الإقليمية التي آثرت السكون والحذر صارت طرفا فاعلا ومؤثرا. لذلك فإن بنكيران حين قاوم ضغوط المرحلة الجديدة ورفض المساومات والإملاءات فإنه لم يستطع عقد الائتلاف الذي يشكل به حكومته الجديدة. ووصف المشهد في الإعلام المغربي بأنه «بلوكاج» وهو مصطلح فرنسي يعبر عن «الانسداد». إزاء ذلك أعفاه الملك من تشكيل الحكومة، وأسند المهمة إلى الدكتور سعد الدين العثماني، الرجل الثاني في حزبه. وهو طبيب دارس للعلوم الشرعية، كان قد تولى حقيبة الخارجية في وقت سابق. وأمهله الملك ١٥ يوما لأجل ذلك.
حين صدر الأمر الملكي بإجازة وزارة العثماني تبين أنها أقرب إلى وزارات ما قبل ٢٠ فبراير ٢٠١١. صحيح أن حزب العدالة والتنمية الفائز انتخابيا حصل فيها على ١٠ وزارات من ٣٩، إلا أنها كانت الأقل أهمية، في حين أن الوزارات الأخرى الأكثر أهمية وزعت على رجال القصر ومراكز القوى المنافسة فضلا عن الخصوم السياسيين إضافة إلى التكنوقراط ورموز العائلات الغنية. فإلى جانب أن «المخزن» يعين مباشرة وزراء الدفاع، الداخلية، والأوقاف. فإن الحزب الرابع في ترتيب الفائزين (التجمع الوطني للأحرار الذي له ٣٧ نائبا في البرلمان فقط) حصل على أهم وزارات المال والفلاحة. ورئيسه المقرب من القصر عزيز أخنوش حصل على وزارة تختص بالفلاحة (الزراعة) والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات. وعين أشد خصوم العدالة والتنمية عبد الوافي لفتيت الذي كان واليا على الرباط وزيرا للداخلية. أما وزير الداخلية السابق محمد حصاد الذي كان بدوره خصما للإسلاميين فإنه عين وزيرا للتربية والتعليم. أخذ على الوزارة أيضا أنها غير متجانسة في اتجاهات عناصرها، وإن القصر وراء تعيين عشرة منهم على الأقل، وإن العثماني لن يكون له سلطة عليهم لأنهم جاءوا من جهات أعلا.
فضلا عن الاستياء الذي قوبلت به الوزارة الجديدة، فإن تشكيلها أحدث صدمة وصفت بأنها زلزال في أوساط حزب العدالة والتنمية. ومن نشطاء الحزب من وصفها في المدونات بأنها حكومة «الإهانة». إلا أنني فهمت أن الدكتور العثماني ــ وهو من حكماء الحزب وقادته التاريخيين ــ بالتنازلات التي قدمها فإنه وضع في اعتباره أمورا ثلاثة، أولا أنه راهن على كفاءته المشهودة في التوفيق بين المتناقضات ومرونته في الإدارة. وثانيا أنه حافظ على شعرة التفاعل الإيجابي مع القصر، لأن البديل هو الانتقال إلى المعارضة والصدام مع الملك. وفي ذلك من الضرر الذي يصيب المجتمع واستقراره بأكثر مما فيه من النفع. الثالث أنه حين خُيِّر بين السيئ والأسوأ فإنه قبل بالسيئ، معتبرا أن ذلك يصب في مصلحة البلد وإن بدا خصما من رصيد الحزب.
أيا كانت المبررات فإن العودة الظاهرة إلى أجواء ما قبل فبراير ٢٠١١، إذا كانت صدى لانتكاسة الربيع العربي في الإقليم فإن ذلك يظل شأن الطبقة السياسية ولاعبيها. لكننا سنحتاج إلى وقت أطول لكي نتعرف على صدى كل ذلك في الشارع العربي الذي يعيش تلك الأجواء ويمر بمختلف العواصم، والرباط من بينها بطبيعة الحال.
 زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
            
            زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
            الهوينا كان يمشي، هنا فوق رمشي، اقتلوه بهدوءٍ، وأنا أهديه نعشي...... صدق القائل ومِنَ الحُبِ ما قَتل، هذا... اقرأ المزيد
153
| 31 أكتوبر 2025
 بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
            
            بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
            تُعتبر الأسرة الخلية الأولى في المجتمع وأحد أهم العوامل المؤثرة في بناء شخصية الطفل، حيث تُسهم في تكوين... اقرأ المزيد
162
| 31 أكتوبر 2025
 الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
            
            الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
            ظهرت للأسف من قبل أخصائيين غير مدربين على كفاءة وضمير مهني التجارة بمسمى العلاج وعدم الإدراك والفهم والوعي... اقرأ المزيد
87
| 31 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6639
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6495
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2697
| 28 أكتوبر 2025
