رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تقبع الحصافة والحماقة على طرفي نقيض، كل ينتظر دوره عبر المساهمة في تشكيل التصرف، وكل في معيته الآثار المترتبة على ذلك حسنة كانت أم سيئة بيد أن كل صفة لا سبيل لها في الاختيار، فهي تذعن لمن يطلبها طائعة وليس لها مجال في الرفض كذلك، إذ إن الفعل ورد الفعل ينطويان على تحديد الاتجاه لاختيار السلوك الذي من خلاله يتضح أي من الصفتين آنفتا الذكر ثم استدعاؤها وفقا للرغبة والشروع في تطبيق هذا التصرف أو ذاك، ولما كانت هناك مساحة مقدرة من الوقت للاختيار ولو لثوان معدودة، فإن هذه الفترة فترة التأمل من الأهمية بمكان في حين أن الهدوء وعدم الاستعجال في التعاطي مع الأمور المختلفة يدل على التفكير الخلاق والأخلاق الجميلة التي يتصف بها من كان طبعه الهدوء، والذي غالباً ما تكون أقواله وأفعاله جالبة للخير والسعادة حينما تنطلق من رؤية متزنة يحفها الاطمئنان وتحدوها مخافة الرحمن بيد أن المنغصات في الأفعال وردودها تأبى أن تخرج من هذه المسائل خالية الوفاض يعزز من تواجدها إبليس اللعين الذي لا يرغب الخير لأحد، فيجند أعوانه لنثر الأوجاع المختلفة والمآسي المتكررة، فحينما تخترق الوساوس القلب تحدث الثقوب تلو الثقوب، وكل هذا استدراج واختبار حقيقي في هذه الحياة، فالإنسان يحرص على رصيده البنكي ويخشى أن يفقد الدراهم ويتحسس من هذا الأمر، غير أنه في التفاعل مع الرصيد الفعلي وهو كم من الخير وعمله لا يلقي له بالا فيسب هذا ويشتم ذاك ويمشي بالنميمة ويحدث الضغينة والأحقاد بين الناس، فيؤسس خلية بائسة كئيبة بفكره السيئ وأخلاقه الرديئة، ولن ينال غير الخسران وضياع رصيده الحقيقي ليس في الآخرة فحسب بل في الدنيا كذلك، فلم يكن علام الغيوب تقدست أسماؤه غافلاً عما يعمل الظالمون، ومن البديهي أن يكون التجاذب والأخذ والرد بين الناس سواء في التعامل فيما بينهم أو بين المرء وأفراد أسرته وأقاربه وأبناء المجتمع بصفة عامة وفي خضم الشد والجذب تنشأ بعض الحزازات التي تنمو صغيرة فلا يتوانى الشيطان في إروائها لتنمو وتكبر وتصل إلى حد القطيعة بل وإلحاق الأذى بالآخرين، كل هذا الأمر يتم ربما في خلال ثوان معدودة، وحينما يصل الأمر إلى هذا الحد فإن هناك حتما حلقة مفقودة وصلة مقطوعة مع من خلق الأسباب ومسبباتها ولا تكمن المشكلة في طبيعة العمل من حيث إدراك الظلم والاعتداء، بل إن الجميع مؤمنون بالمبادئ والقيم الدالة على الخير واجتناب الشر، إلا أن الغفلة وقانا الله وإياكم شرورها لا تلبث وفي خلال ثوان معدودة أن تزين الإثم لتمتد أياديه الملطخة بالخزي من تهور وعناد واندفاع ورعونة، وتسحب المغفل إلى حيث الشكوك المؤذية والمآرب المخزية.. دعونا نجرب صيغة التعامل على مقياس الإعادة بالحركة البطيئة، فلو أعاد الإنسان كلامه أو فعله بالحركة البطيئة فإنه سيدرك حتما بأنه جانب الصواب في عمله كله أو جزء منه، فكيف يرضى بأن يكون صيدا سهلا لمن يتربص به وبرصيده؟ ويختلف التجاوز من حيث التقييم حيث يتباين مستوى الأخطاء فمنها ما هو شنيع ومنه ما هو أقل من ذلك غير أنه لا يختلف من حيث القياس أو بالأحرى المبدأ، فالمبدأ أشبه بلوحة تشكيلية رائعة الجمال بخطوطها الجذابة وتناسق ألوانها، بيد أنك لو سكبت نقطة حبر أو علبة الحبر بكاملها، فإن النتيجة واحدة، وهو غياب الروح والمعنى، حيث إن نقطة الحبر ستشوه المنظر بأكمله شأنها بذلك شأن سكب العلبة بأكملها، من هنا تبرز اللامبالاة التي تتيح المساحات الرحبة لاجتراح الأخطاء تلو الأخطاء على حين أن الاستشعار مرتبط بالإحساس والإحساس بحاجة دائمة إلى التغذية والتنشيط والتذكير والمتابعة، وما لم يتم صيانة الإحساس على الوجه الأكمل، فإن الشعور بقيمة الصواب والخطأ ستتلاشى ومن ثم فإن تبلد الحس سيطغى على الشعور وبالتالي فإن فساد اللوحة الجميلة سيكون النتيجة الحتمية، وفساد اللوحة يعني فساد العمل ومآلات هذا الفساد تؤدي ولا ريب إلى الخسارة الفادحة، فكلما سيطر الهدوء على العقل كلما اكتست المشاعر بوافر من التأني وضبط النفس وكانت البراعة جسراً سهلاً للمحافظة على الجمال المعنوي، جاء رجل إلى عمر بن عبيد وقال له: (إني أرحمك مما يقول الناس فيك)، فقال: (أسمعتني أقول فيهم شيئا) قال: (لا)، قال: (إياهم فارحم).. تأملوا كيف كان رد الفعل وكان القياس الدقيق لمعيار الكسب والخسارة، فلم يغضب ولم يتشنج بل أدرك بأنهم أضافوا إلى رصيده مزيداً من الحسنات جراء الغيبة والنميمة التي أصابته، إنه الاعتناء بالإحساس والحرص على جماله وروعته مما يجعل اللوحة الجميلة تزداد بهاء وجمالا، ليس فقط حينما يراجع الإنسان نفسه ويراها متألقة براقة في خياله بل في حسابات أخرى لا يدركها إلا صاحب القلب الكبير والوعي المستنير، وهكذا فإن صيغة الضغينة ليس لها حيز في قلب المؤمن الذي يعرف كيف يضبط حساباته جيدا فلا تجعلوا من الأخطاء الصغيرة والتي ربما لم تكن مقصودة مدعاة لشرخ اللوحة الجميلة، فالتسامح والصفح والعفو من شيم الكرام ناهيك عن أن رد الفعل المتزن لا يلبث أن يعيد الكرة إلى من فعل الفعل فيخجل من نفسه ومن تصرفه وقد يكون هذا سببا في تصحيح سلوكه وتقويم أقواله وأفعاله، إن التعليم إنما يتم بالحكمة والخبرة والمعرفة فإذا أخطأ من هو أصغر منك سناً فإن الواجب في هذه الحالة أن تأخذ بيده ولا تأخذ عليه، فكما تعلمت ممن سبقوك فحري بك تعليم من يلحقوك، لتمتد الآثار الجميلة الرائعة لتعتني بالإحساس وتثري بفنونها الجميلة أجمل معاني الحب والتسامح.
قال الشاعر
لي أن أرد مساءة بمساءة
لو أنني أرضى بنصر خلب
يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى
حب الأذية من طباع العقرب
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4857
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3609
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2877
| 16 أكتوبر 2025