رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
جاءوا مؤخرا يرتدون زي الدولة الإسرائيلية، يشاركون باختيار حر في العدوان على سكان غزة، إنهم المتطوعون الأمريكان الذي أسهموا في إزهاق أرواح ما لا يقل عن 633 فلسطينيا مدنيا منذ بدأت الحرب، فقد ثبت أن من بين الثلاثين إسرائيليا الذين قتلوا اثنين على الأقل يحملان الجنسية الأمريكية إضافة إلى الإسرائيلية. كيف تتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع ذلك؟ بداية، من خلال إرسال المزيد من الأمريكان. بعد أقل من 24 ساعة على الفصل الذي جرى معه في قناة فوكس نيوز، وصل وزير الخارجية الأمريكي إلى القاهرة يوم الثلاثاء، حيث عبر عن الموقف الغربي التقليدي الذي يندد بسوء سلوك حماس ويؤكد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. قال كيري: "نحن هنا منهمكون في العمل لأن الكثير من الدم قد سفك في الجانبين". إلا أن الجملة التي أضافها بعد ذلك بصوت شاحب، وقال فيها "بما في ذلك موت مواطنين أمريكيين" هي التي أكدت واحدة من أكثر سمات النفاق التي لا يلاحظها كثير من الناس في هذا النزاع، وهي أن المواطنين الأمريكيين يشجعون بشكل منتظم على قتال واضطهاد وقتل الفلسطينيين. عليك أن تنسى كيف تحاضر أمريكا الحكومات العربية حول "ملاحقة" و "ووقف تسرب" المقاتلين العرب الأجانب إلى العراق وسوريا وأفغانستان. لن يواجه المتطوعون الأمريكان في إسرائيل ملاحقة من الـ "أف بي آي" لتعقب مسار رحلتهم من نيويورك إلى تل أبيب، ولن يخضع جيرانهم للاستجواب لفهم ما الذي حفزهم على ارتداء زي أجنبي وحمل بنادق يوجهونها نحو أشخاص لم يقابلوهم من قبل على الإطلاق. ناهيك عن أن يوضعوا على قوائم الممنوعين من السفر عبر الطيران. وبالتأكيد لا رصد للخطب التي تلقى في المعابد اليهودية أو في مؤتمرات الإيباك ما لم يكونوا ضيوفاً مدعوين للخطابة وجاء دورهم. لحسن حظ المتطوعين الأمريكان، سوف يُجنبون الإذلال الذي يتعرض له المسلمون الأمريكان بسبب عمليات الرقابة والتجسس التي تقوم بها الـ "إف بي آي"، كما وثقه برنامج وثائقي أنتجته الجزيرة وعرضته مؤخراً، بهدف استدراج المواطنين الأمريكان لقتل أو جرح أشخاص آخرين ممن يعتبرون "أشخاصاً سيئين". لا، هناك فقط ثلاث طرق قد يقع من خلالها المقاتلون الأجانب من حملة الجنسية الأمريكية الإسرائيلية المزدوجة في مخالفة القانون.. أما الأولى، فهي أن ينتهي بهم المطاف وقد انضموا إلى الجانب "الخطأ"، وهو هنا محدد مسبقاً بأنه حماس. فالولايات المتحدة الأمريكية تصنف هذه المجموعة المقاومة على أنها منظمة إرهابية أجنبية وتفرض عليها عقوبات بحجة أنها "تهدد بإعاقة عملية السلام في الشرق الأوسط". قد يجد البعض ذلك في غاية الغرابة، خاصة أن نتنياهو أسهم بأكثر من نصيبه في قتل نفس عملية السلام هذه. ومتى كانت المرة الأخيرة التي شاهدت فيها أي مواطن أمريكي يحاكم بتهمة دعم مستوطنين إسرائيليين يمارسون العنف (أو بتهمة أنه واحد منهم) أو بتهمة الانتماء إلى جماعات متطرفة مثل مجموعة كاهانا حي؟). من الناحية النظرية، فإنه يمكن أن يتعرض الشخص لعقوبات جنائية أو إلى فقدان جنسيته إذا كان يخدم في الجيش الإسرائيلي وثبت أنه كان ينوي التخلي عن الجنسية الأمريكية بمجرد الالتحاق بالجيش الإسرائيلي. ومن تسول له نفسه من المقاتلين حاملي الجنسية المزدوجة الأمريكية والإسرائيلية مهاجمة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر فقد توجه له تهمة الخيانة. وأخيراً، لا يزال قتل مواطن أمريكي خارج الولايات المتحدة جناية فيدرالية. رغم أنه من المبكر جداً معرفة ما إذا كان المقاتلان حاملا الجنسية الأمريكية الإسرائيلية المزدوجة اللذان قتلا في الحرب على غزة شون كارميلي وماكس ستاينبيرغ، قد قتلا أي مواطنين يحملون الجنسية الأمريكية الفلسطينية المزدوجة أثناء مشاركتهما في القتال في غزة. بإمكانك أن تطمئن وترتاح لأنه لن يجري أي تحقيق. بالفعل، يمكن للإنسان أن يخلص إلى أن هذين الأمريكيين الجهاديين (أو ليس هذا ما نطلقه في العادة على كل من يتوجهون للمشاركة في القتال في ذلك الجزء من العالم؟) سيكونان في أمان من أي مساءلة أو محاكمة. لعلهما لم يفكرا إطلاقاً في التخلي عن جوازي سفرهما حينما حملا السلاح ضمن الجيش الإسرائيلي. فقط عليك أن تسأل رحم إيمانيويل، الذي تطوع مرتين للخدمة في قوات الدفاع الإسرائيلي، ثم أصبح فيما بعد كبير موظفي البيت الأبيض لدى الرئيس أوباما ثم عمدة شيكاغو فيما بعد. أي انحراف هذا؟ لو بقي كارميلي وستاينبيرغ على قيد الحياة لربما أصبحا دبلوماسيين أمريكيين كبيرين مجازين أمنياً أو لربما أصبحا حتى وسيطين في نفس الصراع الذي كانا في يوم من الأيام قد شاركا في القتال فيه. عليك فقط أن تتأمل في قصة مارتين إنديك، مبعوث أمريكا للسلام في الشرق الأوسط، والذي كان نفسه متطوعاً (وإن كان في مجال مدني) أثناء حرب إسرائيل عام 1973، ثم أصبح بعد ذلك مسؤولا رفيعا في واحدة من أهم مؤسسات اللوبي الصهيوني في أمريكا، إيباك. ولكن ثمة سؤال آخر.. هل كان كارميلي وستاينبيرغ يقاتلان ضد الولايات المتحدة وبذلك ارتكبا عملاً خيانياً؟ سيقول المدافعون عنهما "طبعاً لا". ولكن، إذا ما تأملت في خطاب القاعدة ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وخطاب ما لا يحصى من المجموعات التي انبثقت عنها منذ ذلك الوقت، لوجدت أن الشكوى الأساسية والعامل الأهم في تجنيد الأشخاص وحثهم على مهاجمة وقتل الأمريكيين كان باستمرار الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، دبلوماسياً ومالياً، ونعم عسكرياً أيضاً. لا يشكن أحد بينما تبيد آلة القتل النتنياهوية الأطفال الفلسطينيين وهم يلعبون الكرة على شواطئ غزة، في أن هناك من العرب والمسلمين من يرغب في الانتقام من إسرائيل ومن الولايات المتحدة لهؤلاء الضحايا. قتال أشخاص مثل كارميلي وستاينبيرغ إلى جانب إسرائيل يعمق الغضب وهذا بدوره سوف يحرض العرب والمسلمين على كراهية الأمريكان، الأمر الذي سيتهدد جميع المواطنين سواء كانوا في سفر خارج الولايات المتحدة أم كانوا يسيرون آمنين في شوارعها. لو كنا في عالم يسوده العقل والحكمة لبادرت الولايات المتحدة إلى عمل شيء بشأن ذلك. ولكن في أمريكا التي نعرف اليوم، يعتبر دعم إسرائيل في اضطهادها للفلسطينيين أمراً مؤسسياً. لن نشهد إغلاقاً للجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية التي تتخذ من أمريكا مقراً لها وتجمع الأموال المعفية من الضرائب لصالح المستوطنين الإسرائيليين. وستستمر مصلحة الضرائب في السماح بهذا التمويل لأعمال عدائية في مخالفة صريحة للسياسة الأمريكية المقررة (ولعل الحجة، كما تعرفون، هي أن من تمارس ضدهم هذه الأعمال العدائية "يشكلون عقبة في طريق السلام"). لن تبذل جهودا "لنزع التطرف" من الأمريكان الذين يخرجون للقتال إلى جانب إسرائيل حينما يعودون إلى وطنهم. بل على العكس من ذلك، قد تجدهم يشقون طريقهم ليصبحوا من كبار الموظفين أو مسؤولين منتخبين في مواقع النفوذ التي سيتمكنون من خلالها من بث انحيازهم في قلب السياسات الأمريكية. وهذا بالضبط ما قصده الوزير جون كيري، حينما أشاد بقتلى الحرب الإسرائيلية من الأمريكان: فالنظام الذي يعتبر هو جزء لا يتجزأ منه يحزن عليهم ويأسى. ولكن هذا لا يعني أن أمريكا أو الأمريكان هم الذين يحزنون أو يأسون. كلنا رجاء أن يتمكن الآخرون من التمييز بين النظام والشعب في أمريكا.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6633
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6492
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2685
| 28 أكتوبر 2025
