رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منتهى سلات

مساحة إعلانية

مقالات

402

منتهى سلات

اللون يسأل والذاكرة تجيب.. قراءة في لوحات سعاد السالم

30 ديسمبر 2025 , 12:00ص

ليس هذا معرضًا يُطالَب فيه المتلقي بأن يفهم بقدر ما يُدعَى لأن يتذكّر. فالأعمال المعروضة للفنانة التشكيلية سعاد السالم، لا تقف عند حدود الشكل أو الموضوع، بل تتشكّل كرحلة ممتدة في العلاقة المعقّدة بين الإنسان والمكان، بين الجدران التي نعيش داخلها، وتلك التي تتكوّن في الداخل بصمت. منذ البدايات، يحضر المكان لا بوصفه خلفية محايدة، بل ككائن حيّ، يحتفظ بأثر الساكنين ويختزن ذاكرتهم. البيوت، النوافذ، الجدران، والمساحات المغلقة لا تُرسم كما هي، بل كما تُعاش. 

هنا لا نتأمل المعمار في شكله الظاهر، بل أثره النفسي: كيف يحدّنا، يحمينا، أو يراقبنا دون كلام. في الأعمال الأولى، يغلب الطابع البنائي والتجريدي؛ مربعات، تقسيمات، وطبقات لونية كثيفة، كأن الفنانة تختبر الحدود الأولى بين الإنسان والمأوى. لا يظهر الجسد حضورًا مباشرًا، لكنه حاضر كغياب مقصود، كأثر مرّ من هنا وترك علامته. 

في هذه المرحلة، يلوح السؤال بوضوح وإن لم يُطرح صراحة: هل نسكن البيوت، أم أنها تسكننا؟ ومع تطوّر التجربة، تبدأ الوجوه بالظهور، لا بوصفها بورتريهات، بل كمساحات شعورية. ملامح مختزلة، عيون واسعة، وخطوط تلامس الشكل دون أن تحاصره تمامًا. 

الأنثى هنا ليست موضوعًا ولا رمزًا جاهزًا، بل وعيًا متأملًا؛ حضورها هادئ، مراقِب، أحيانًا محاصر بالجدار، وأحيانًا متماهٍ معه، حتى يكاد الحدّ الفاصل بين الجسد والمكان يتلاشى. وفي هذا السياق، تبرز مجموعة «عقلاء المجانين» بوصفها انعطافة ذهنية عميقة داخل المعرض. 

هنا ينتقل الثقل من الجدار المادي إلى الجدار النفسي، ومن المكان الخارجي إلى فضاء العقل. الشخصيات المصوَّرة لا تصرخ ولا تحتج، لكنها أيضًا لا تنتمي تمامًا. تبدو عالقة في منطقة رمادية، حيث يغدو “الجنون” شكلًا آخر من أشكال الوعي، وتتحوّل الحكمة إلى عبء ثقيل. الوجوه في هذه المجموعة مشدودة بالصمت؛ عيونها مفتوحة على اتساعها، كأنها ترى أكثر مما يُحتمل.

 لا تُصدر الفنانة أحكامًا، ولا تضع المتلقي أمام موقف أخلاقي جاهز، بل تترك السؤال معلّقًا: من هو العاقل؟ ومن الذي حدّد شكل العقل المقبول؟ هنا يصبح الاختلاف خطرًا، وتغدو الحساسية الزائدة خروجًا عن النظام، لا لأنها خطأ، بل لأنها ترى أبعد قليلًا. الخط في هذه الأعمال ليس عنصرًا زخرفيًا، بل أثر حركة وتردّد. أحيانًا يبدو حادًا، وأحيانًا متكسّرًا، كأنه يعيد التفكير قبل أن يستقر. هذا التذبذب يمنح السطح توترًا داخليًا، ويجعل اللوحة غير مغلقة، قابلة لأن تُقرأ من أكثر من زاوية، وأكثر من زمن. 

أما اللون، فيتبدّل عبر المراحل دون أن يفقد هويته. من الدرجات الترابية الثقيلة إلى الألوان الأكثر إشراقًا أو تباينًا، يظل اللون لغة شعورية قبل أن يكون خيارًا جماليًا. 

إنه أداة لتشكيل المزاج، والإيحاء بالحالة النفسية، ونسج علاقة صامتة بين العمل ومن يقف أمامه. في السياق المحلي، تكتسب هذه التجربة عمقًا إضافيًا. فالعلاقة بالمكان في مجتمع يعيش تحولات متسارعة تجعل سؤال السكن والانتماء سؤالًا معاصرًا بامتياز. 

غير أن الفنانة لا تتعامل مع هذا الواقع بوصفه موضوعًا مباشرًا، بل تمرّ عبره بهدوء، وتعيد صياغته بلغة شخصية، قادرة على تجاوز المحلي إلى الإنساني. في النهاية، لا يغادر المتلقي هذا المعرض بصورة نهائية أو معنى مغلق، بل بإحساس ممتد. إحساس بأن هذه الأعمال لم تُنجَز لتُغلق، بل لتظل مفتوحة، قابلة للتأويل، وقادرة على مرافقة من يراها خارج قاعة العرض. تجربة تنمو مع الزمن، تمامًا كما نكبر داخل الأماكن التي نظن أننا غادرناها، بينما لا تزال، بهدوء، تصغي إلينا من الداخل.

مساحة إعلانية