رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

ثقافة وفنون

1124

"غازي عينتاب" و4000 سنة قبل الميلاد

12 نوفمبر 2013 , 12:00ص
alsharq
علي سفر

كأنك في حلب! قالت لي مرافقتي في عينتاب القديمة، فأجبتها دون تردد: كأنني في دمشق!.. هي لعبة الأمكنة فينا، نحن البشر الذين ترهقنا الجغرافيا، لكنها، ورغم كل هذا العناء الذي نتنكب في سبيل التحرر منها، تبقينا على اتصال مع الماضي، بذكرياته وتفاصيله، والحاضر بآلامه وأوجاعه، ولهذا نجد في المدن التي تشبهنا عزاءً لأرواحنا.

احتجت للوصول إلى غازي عينتاب، طيراناً مديداً، من عمان إلى إسطنبول وساعة ونصف في الطيران الداخلي، لأجد نفسي في مطارها الصغير، أركب حافلةً مع العديد من المسافرين، وفي الطريق إلى المدينة كانت التلال الصغيرة المشجّرة، تعيدني رغماً عني إلى ما يشبه هذا المشهد في الأرض السورية، التي لا تبعد حدودها عن المدينة سوى مسافة قصيرة نسبياً (40 - 50 كلم).

وحين دخلت بنا الحافلة المدينة، تغير كل شيء، فعينتاب التي بقيتْ لأمدٍ طويلٍ تشبه أغلب المدن السورية، لم تعد كذلك، بعد أن بدأت فيها ومنذ أكثر من عقد من الزمن عملية تنموية كبرى، حولتها إلى مدينةٍ عصريةٍ، تجد فيها كل ما يشبه المدن التركية الكبيرة، وربما لا أبالغ إذا قلت بأن تأسيس المدينة الجديدة إنما يذهب صوب "الأوربة"، وبما يجعل من المدينة الشرقية أشبه بمدينة أوروبية صغيرة.

وصلنا إلى حي الجامعة، وهو الحي الذي وجد فيه السوريون الذين لجأوا إلى عينتاب مساحات للعيش والعمل، وهناك كانت صورة المدينة الحديثة تظهر بشكل أوضح من وسطها الذي لابد أن يكون مزدحماً دائماً، ولكن هنا يجد المرء، كيف تمضي العمارة السكنية الحديثة نحو تأمين المعيشة والإيواء عبر خلق فضاءات مختلفة، فالعمارات المبنية على تلال صغيرة تتباعد عن بعضها، رغم تراصفها على شكل مربعات تتوسطها حدائق جميلة، جرى تزويدها مجاناً بألعاب رياضية، وبمقاعد مسقوفة بشكلٍ أنيق، وبما يسمح للسكان بممارسة الرياضة، والاستمتاع بالهواء النقي..

"شاهين بيه"

بلدية "شاهين بيه".. وهي بلدية القسم الجديد من المدينة، تبذل جهداً كبيراً، وكما يلاحظ الزائر، في سبيل منح المنطقة طرازاً معمارياً لائقاً بالعين الباحثة عن الجمال، وفي الوقت نفسه تسعى إلى خلق متنفسٍ رحبٍ للسكان الذين يرغبون بالعيش في هذه المنطقة.

زيارةُ عينتاب بالنسبة للسوري، وبمعزل عن حالة اللجوء التي يعيشها السوريون هناك حالياً، هي زيارة للتاريخ القديم، ولمثيله الحديث، ففي حالة الأول، لا يمكن للسوري أن ينسى أن المدينة كانت واحداً من الثغور التي كانت تدافع عن بلاد الشام، في وجه الغزوات القادمة من الشمال، وأن تيمورلنك الذي غزا المنطقة، وأمعن فيها تدميراً، مرّ في عينتاب قبل أن يقرر مهاجمة حلب، فهي قرينة حلب، أو أختها (التوأم)، ولعل مقاربة شكل قلعتي المدينتين يوضح كيف أن الشامي الذي عاش هنا كان يصنع صورة حلب في عينتاب.

وفي حالة زيارة التاريخ الحديث، يتذكر السوريون أن عينتاب بقيت تاريخياً مدينةً سورية حتى عام 1920، حيث تم في ذلك العام إلحاقها بالدولة التركية، بموجب معاهدة "سيفر"، بين تركيا من جهة، وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى، مثلها مثل العديد من الأقاليم السورية الشمالية، التي بدأت منذ ذلك الوقت تفقد صلاتها السياسية والإدارية مع سورية، ولتتحول شيئاً فشيئاً إلى مدينة تركية، وهكذا تحول اسمها من عينتاب، إلى غازي عينتاب بموجب قرار من البرلمان التركي في ذلك الوقت.

كنت قد قررت أن أمضي إلى التاريخ عبر زيارة المدينة القديمة، فانطلقنا أنا ومرافقتي إليها عبر الترامواي الجميل، الذي ينقل سكان المدينة من طرفها الشرقي إلى طرفها الغربي بيسر وسهولة، وبأجرة زهيدة.

ميدان الديمقراطية

وهكذا هبطنا في محطة (ولايات) التي يمكن من خلالها النفاذ إلى الجزء القديم، وكان أول ما استقبلنا هنا هو "ميدان الديموقراطية"، الذي ينتصب فيه نصب تذكاري لشهداء الشعب التركي، ومن هذا الميدان مضينا أولاً إلى منطقة Kozanlıcami التي يعيش فيها عدد كبير من السوريين القادمين من مدينة حلب، وقد نقلوا معهم كل ما يخص معيشتهم وحياتهم، من مطاعم ومتاجر، يحاولون من خلالها التأقلم مع الغربة المفروضة عليهم قسرياً، وفي الطريق إلى "المطعم الحلبي الأصيل"، الذي سمى نفسه بملتقى السوريين والعرب، حيث سنتناول الإفطار السوري التقليدي الذي يحتوي على الفول والمسبحة، كان لابد من أن نمر بشوارع المدينة القديمة، التي تجري فيها عمليات ترميم متواصلة تهدف إلى تنميتها سياحياً، وعلى جنبي هذه الشوارع كانت المكتبات ومحلات بيع الآلات الموسيقية، تعيدنا تلقائياً إلى ما يشبهها في دمشق وحلب، فالبيئة المعمارية والبشرية تتشابه، وبينما تنهض قرب هذه الشوارع القديمة العمارات الحديثة، كانت الأمكنة القديمة تظهر بشكل جميل، بعد أن تمت إزالة الأبنية المستحدثة التي غطت على ملامحها في الماضي القريب.

أنهينا إفطارنا على عجل، ومضينا إلى أسواق المدينة في طريقنا إلى قلعة غازي عينتاب، تتميز محافظة عينتاب بكونها واحدة من المناطق الأكثر إنتاجاً للفستق العنتبلي، الذي يقترن هو الآخر بمثيله الحلبي، فالكنافة العنتبلية تزدهي بطبقة خضراء تغطيها، هي فستق أخضر جرى طحنه ورشه عليها، كما أن البقلاوة والبلورية، وهي حلويات شامية تقليدية، تصبح ذات ملمح عنتبلي بسبب الفستق الذي يشكل مكوناً أساسياً فيها، إنه واحدٌ من ملامحها الأصيلة، ولهذا لم نتفاجأ بمشاهدة نصبٍ حجريٍ لحبة فستق ترفعها يدان في وسط المدينة، بالقرب من ميدان أتاتورك الذي توقفنا فيه قليلاً، لنشاهد البناء القديم للمحكمة أو "السرايا العدلية"، وخلف هذا البناء كان لابد من زيارة ساحة التماثيل المعدنية التي توزعت أشكالها لتعبر عن نواحٍ حياتيةٍ، يجد فيها زوار المكان الطرافة والجمال، دون أن تجعل حداثتها الزائر يحس بغربة حداثية، قلما نجت منها المحاولات المشابهة في أمكنة أخرى من العالم.

أسوار باقية

قلعة عينتاب التي تنهض وسط المدينة القديمة، مغلقة على الزوار، ولكن مطالعة أسوارها قد تكفي من يريد أن يرضي نزعة الحنين إلى الماضي، فعلى هذه الأسوار مرت جيوش مهزومة، وأخرى منتصرة، ولكن الجميع غادروا وبقيت الأسوار، وبقي الناس الذين ظلوا يصنعون الحياة، كما في الأسواق القديمة القريبة، حيث تتوزع الأسواق التقليدية، بين سوق للتوابل وآخر للقماش، وآخر للنحاسيات، وغير ذلك، بالتجاور مع عدد من الخانات المعروفة، كخان التتن (الدخان) الذي تحول إلى سوق ومقهى شعبي، يتيح للزائر أن يجلس فيه جلسة عربيةً أصيلةً، ومقهى التحميص، الذي يحفل بذكريات سياسية يقرأ تفاصيلها زائر المكان.

تاريخ عينتاب لا ينتهي عند ما نقاربه نحن، بل إنه يمتد آثارياً إلى أزمنة قديمة (4000 سنة قبل الميلاد)، تقودك إليها صور اللوحات الفسيفسائية والنقوش الحجرية التي تم اكتشافها في المدينة، والتي تعرف من قبل علماء الآثار بفسيفساء زيوغماZeugma.

أن تشعر بأنك تنتمي للمكان، لهو أمر حسنٌ في حال كنت سائحاً، يريد أن يزور معالم المدينة الأساسية، كالمتحف الأثري ومتحف (سوزار) لعلم الأعراق البشرية، وأن ترى البيوت التاريخية وأن تتذوق مأكولاتها التقليدية كـ "اللحم بالعجين"، وأن تأكل من أنواع الكباب المتنوعة، مثل كباب "كامار" و"ينيدنيا" و"سيميت"، وكباب الباذنجان وكباب الكبدة، وأن تزور حديقة الحيوان التي تعتبر الثالثة على مستوى العالم من حيث المساحة!

ولكن الانتماء للمكان بوصفك سوري يغالب ظروف الحياة ومشقاتها، أمر صعب وقاسٍ، فأنت كسوري في عينتاب بشكل خاص وفي تركيا عموماً، والتي أحسنت معاملة السوريين ولم تسمّهم لاجئين بل اعتبرتهم ضيوفاً مكرمين في أراضيها، لن تشعر بالهناء طالما أن ما يفصلك عن بلادك لا يتعدى عشرات الكيلومترات.

ولكنك ستعيش الفرح الخالص حين يقوم المواطن العنتبلي بوضع يده على قلبه حين يعرف أنك سوري، وكأنه يقول لك قلب عينتاب كان سورياً في التاريخ، ولكنه الآن هو قلب ينبض معكم حباً وتقديراً، على أمل أن تعود قلوب المدن السورية إلى نبضها من جديد!

اقرأ المزيد

alsharq متاحف قطر تطلق مهرجان «جدران عالمية» اليوم

- الشيخة ريم آل ثاني: الحدث يحتفي بالإبداع والخيال والروابط الإنسانية تطلق متاحف قطر اليوم، النسخة الثالثة لمهرجان... اقرأ المزيد

40

| 03 ديسمبر 2025

alsharq «فضاءات ميديا» تستضيف دورة للإعلاميين حول حقوق الإنسان

استضافت «فضاءات ميديا» دورة تدريبية إقليمية متخصصة للإعلاميين والصحفيين في المجموعة، بعنوان: «معايير ومبادئ حقوق الإنسان المتعلقة بالعمل... اقرأ المزيد

44

| 03 ديسمبر 2025

alsharq متاحف قطر تطلق مهرجان "جدران عالمية" غداً

تطلق متاحف قطر غدا الأربعاء، النسخة الثالثة من مهرجان الجداريات الدولي جدران عالمية: الدوحة، وذلك بعد نجاح النسختين... اقرأ المزيد

84

| 02 ديسمبر 2025

مساحة إعلانية