رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
صحافة المواطن أو الصحافة المدنية هي طريقة جديدة لمساعدة الجمهور على التغلب على حالات الضعف والتهميش والاغتراب والشعور بالإقصاء وعدم القدرة على المشاركة في الحياة العامة، فالصحافة المدنية تهدف إلى تدعيم وتعزيز مفهوم المواطنة ونشر ثقافة النقاش والحوار ومساعدة عامة الشعب على الاندماج والانخراط في طرح مشكلاتهم وهمومهم والوصول إلى الحلول العملية لاحتوائها واستئصالها والقضاء عليها، فدور الصحافة المدنية لا يقتصر فقط على تناول الآفات والأمراض الاجتماعية واستعراضها، بل يركز كذلك على إفراز فضاء عام لطرح ومناقشة القضايا والشؤون العامة، تهدف الصحافة المدنية من وراء تغطية مشكلات وآفات المجتمع مثل الفساد، والجريمة والعنف والسرقة والنشل...الخ إلى الوعي بهذه المشكلات من قبل المواطنين وحثهم على المشاركة في مكافحة هذه الآفات والأمراض الاجتماعية كل من موقعه وحسب إمكاناته. فطرح المشكلة الاجتماعية غير كاف وإنما يجب الذهاب إلى ما وراء استعراض المشكلة وهو البحث عن جذورها وأسبابها وبذلك توصيف الإجراءات العملية اللازمة بالتنسيق مع الجهات المعنية سواء الرسمية منها أو غير الرسمية لحل هذه المشكلات واستئصالها والقضاء عليها.
ظهرت الصحافة المدنية أو صحافة المواطن في منتصف العقد الأخير من القرن العشرين في الولايات المتحدة كبديل للصحافة المسيطرة والمنتشرة في الساحة الإعلامية. وجاءت هذه الممارسة الصحفية الجديدة كبديل للصحافة التقليدية المرتبطة بالنظام القائم وبالنخب وبالمصالح الاقتصادية والسياسية وبالقيم المزيفة والمضللة والمعروفة بالموضوعية والحياد والحرية. وكبديل لصحافة التسطيح والتهميش والاستهلاك والاغتراب وصحافة تبرير وتشريع النظام والوضع الراهن. تقوم صحافة المجتمع المدني على مبدأ الوصول للمواطنين والاستماع إليهم وإعطائهم الفرصة للاستماع والتحدث لبعضهم البعض ولمناقشة انشغالاتهم ومشكلاتهم وطرح الحلول والبدائل وبذلك فهُم طرف في العملية الإعلامية ومشاركون فيها، وليسوا مستقبلين فقط، بل هم مستقبلون وفاعلون.
يرى منظرو صحافة المجتمع المدني أنها صحافة جادة مسؤولة وملتزمة، وطريقة جديدة تهدف إلى تحديد القضايا والمشكلات الرئيسية التي تهم الرأي العام والسواد الأعظم من الشعب. وهي بذلك تهدف إلى خلق حوار ونقاش فعال ومجد ومثمر حول أهم قضايا المجتمع، والسعي لتشخيص الأسباب وطرح الحلول والبدائل لمعالجتها، فالهدف هو ليس تغطية الأحداث والقضايا والجرائم والانسحاب بعد ذلك، بل الذهاب أبعد من ذلك بكثير أي طرح هذه الأحداث والقضايا للنقاش والحوار والدراسة والتحليل، ومن ثم إيجاد الحلول العملية والناجعة لمعالجتها واستئصالها. فالصحافة المدنية هي نوع من الإعلام المسؤول والهادف الذي يعنى بإعادة تنظيم الأولويات وتحديد العلاقة النوعية التي تربط المجتمع المدني بالقوى الفاعلة في المجتمع وانتهاج طريقة جديدة في طرح المشكلات والأمراض الاجتماعية المختلفة كالفساد والرشوة والفقر والجهل والأمية والجريمة ومختلف السلوكيات المنحرفة بهدف مناقشتها ودراستها وتحليلها من قبل الجميع والتفكير في استئصال أسبابها للقضاء عليها، فصحافة المجتمع المدني هي مقاربة جديدة لمفهوم جديد للصحف والصحفيين باعتبارهم فاعلين وليس متفرجين على ما يحدث في المجتمع، وهم بذلك مساهمون في الحياة العامة وفي المجتمع المدني من أجل تغيير مجريات الأمور في المجتمع وليس تقديمها للقراء والانسحاب بعد ذلك. وهذا يعني من جهة أخرى، إدماج وإشراك المواطنين في العملية الإعلامية من خلال اختيار المواضيع وطرحها والمشاركة في مناقشتها واقتراح الحلول الناجعة لمعالجتها. الجميع مسؤول في الصحافة المدنية والجميع مطالب بالقيام بدور إيجابي وفعال يقوم على المشاركة والنقاش والحوار وتشخيص الأسباب واقتراح الحلول سواء تعلق الأمر بالصحفي أو بالمؤسسة الإعلامية أو بالمواطن.
فدور الصحافة المدنية لا يقتصر فقط على تغطية الأحداث وتقديمها للقراء وطرح المشكلات ورصدها، بل يتعدى ذلك بحيث يهدف إلى المساهمة الملتزمة والمسؤولة والجادة والفاعلة للوصول إلى الحلول العملية من خلال فتح باب النقاش العام والواسع أمام المجتمع المدني ليقوم بدوره في تحديد المشكلات وأسبابها وخلفياتها وسبل حلها واستئصالها، فصحافة المجتمع المدني هي حلقة وصل بين المواطنين والسلطة وهي الوسيط الإعلامي للمجتمع المدني الذي يعتبر الفضاء العام للشرائح الاجتماعية والمكونات المختلفة للمجتمع. هذه المكونات من خلال صحافة المجتمع المدني تعبر عن همومها ومشاكلها وتبدي آراءها حول ما يجري في المجتمع، وهذا يعني أن المواطن يتمتع بدرجة عالية من الوعي الاجتماعي والمسؤولية الاجتماعية. فمن خلال المجتمع المدني والصحافة المدنية يطرح المواطنون مشاكلهم ويناقشونها ويضعون الحلول الإجرائية لحلها ومعالجتها. الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى ربط المجتمع المدني بالقوى الفاعلة في المجتمع وصناع القرار والمؤسسات والتنظيمات والهيئات المختلفة حتى تقوم كل جهة وكل طرف بمسؤوليته ودوره في التكفل ومعالجة القضايا الاجتماعية المختلفة كل حسب اختصاصاته وصلاحيته. ومن خلال صحافة المجتمع المدني يشارك المواطن في عملية التنمية الشاملة وفي المشاركة السياسية وصناعة القرار وهكذا يتكفل الفرد في المجتمع بواجبه الاتصالي والإعلامي لإيصال رأيه وفكرته ولاستقبال كذلك المعلومة التي تهمه وتساعده في صناعة القرار السليم. تتكفل الصحافة المدنية وكذلك المجتمع المدني في الوعي بالقضايا المهمة والمصيرية في المجتمع أولا، وطرحها للنقاش والحوار، ومن ثم إشراك كل الجهات المعنية في المساهمة في اقتراح الحلول وتنفيذها من خلال القوى الفاعلة في المجتمع والسلطة كذلك.
تتحدد أدوار القائمين بالاتصال في صحافة المجتمع المدني حسب منظري هذا النوع الجديد من الصحافة على النحو التالي: الدور الملتزم شخصيًا بصحافة المجتمع المدني وينبني هذا الدور على الواجب والالتزام الشخصي من قبل الصحفيين بحل مشكلات المجتمع المحلية. الدور القائم على الثقة بالمجتمع المحلي، وهو يعني إيمان الصحفيين بقدرة المجتمع المحلي على حل مشكلاته بنفسه.الدور القائم على الالتزام المؤسسي وهو دور قائم على الإيمان بضرورة قيام الصحافة بمسؤولياتها إزاء حل مشكلات المجتمع المحلي.
تتطلب الديمقراطية في المجتمع صحافة ملتزمة وواعية تقوم بمسؤوليتها الاجتماعية على أحسن وجه، ومواطن مسؤول وواع منخرط في مجتمع مدني يناقش مشاكله وهمومه وقضاياه بطريقة ديمقراطية صريحة وواعية ومسؤولة من أجل مشاركة الجميع في الحوار والنقاش واقتراح الحلول والإجراءات العملية لمعالجة المشاكل واحتوائها واستئصالها. والكلام عن الصحافة المدنية يقودنا للكلام عن ضرورة وجود مجتمع مدني نشط وديناميكي وفعال يكون الإطار العام الذي تنشط فيه الصحافة المدنية. التحدي إذن كبير جدا في العالم العربي، خاصة في عصر العولمة والثورة المعلوماتية وصناعة المعرفة وانهيار الحدود والحواجز. فالمواطن يجب أن ينتقل ويتحول من مجرد مستقبل ومستهلك إلى مشارك وفاعل واع ومسؤول عن سلوكه الاتصالي والإعلامي. في ظل الفضاء الإعلامي الملوث الذي تعيشه معظم المجتمعات العربية، وفي ظل ظاهرة التبعية والتقليد والانجراف يتحتم على المواطن والمؤسسة الإعلامية والمجتمع المدني –إن وُجد- في الوطن العربي التفكير في البديل، في صحافة مسؤولة وملتزمة وواعية تعنى بقضايا السواد الأعظم من الشعب- القضايا الحساسة والجادة والمصيرية- لطرحها واستعراضها ومناقشتها من أجل إشراك الجميع للمساهمة واقتراح الحلول الناجعة لمعالجتها. فهل سيكون الربيع العربي هو الانطلاقة الجادة لصحافة المجتمع المدني في العالم العربي؟ وهل ما بدأته الشبكات الاجتماعية في عملية التغيير والإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي سيؤدي إلى منظومة إعلامية جديدة بقيم ومبادئ جديدة لخدمة كلمة الحق ومصلحة الشعوب المغلوب على أمرها؟
زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
الهوينا كان يمشي، هنا فوق رمشي، اقتلوه بهدوءٍ، وأنا أهديه نعشي...... صدق القائل ومِنَ الحُبِ ما قَتل، هذا... اقرأ المزيد
30
| 31 أكتوبر 2025
بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
تُعتبر الأسرة الخلية الأولى في المجتمع وأحد أهم العوامل المؤثرة في بناء شخصية الطفل، حيث تُسهم في تكوين... اقرأ المزيد
75
| 31 أكتوبر 2025
الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
ظهرت للأسف من قبل أخصائيين غير مدربين على كفاءة وضمير مهني التجارة بمسمى العلاج وعدم الإدراك والفهم والوعي... اقرأ المزيد
24
| 31 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6621
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6483
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2646
| 28 أكتوبر 2025