رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

462

سعدية مفرح

خناجر مغموسة في العسل

02 يونيو 2025 , 02:00ص

لم تكن الهزائم التي أربكت خطواتها ناتجة عن قسوة الحياة أو تقلبات الأقدار، ولا حتى عن أعداء وقفوا في وجهها ذات حرب. لم تخذلها الحياة كما يفترض أن تخذلنا، بل أولئك الذين صنعتهم من دمها، وأطعمتهم مضغة من قلبها، ووهبتهم الكثير من شهقاتها، وظنتهم ضلعها المستقيم، فكانوا الخنجر الذي لا يُرى.. حتى يغوص في الشغاف.

كانوا الوجوه الأقرب، الأسماء التي كانت تهمس بها في صلواتها، الأيادي التي تشبثت بها في العتمة، الذين أودعتهم أسرارها وعرت أمامهم ضعفها وهي تثق بأنهم لن يخذلوها أبدًا. صنعتهم حبًا، لا مصلحة. دعمتهم حين ترنحوا، وحملت عنهم أثقالهم وهم لا يعلمون. ظنت أنها تقيم معهم وطنًا صغيرًا من دفء وأمان، فإذا بهم أول من يشعل النيران فيه.

ليتهم خذلوها جهارًا، بصراحة الجفاء. ليتهم قالوا: “لا نحبك”، أو حتى “لقد انتهى الأمر”. لكنها لم تتلقّ شيئًا من هذا الوضوح الجارح. تلقّت ما هو أشد، خناجر مغموسة في العسل، كلمات محبة تخبئ وراءها نية غادرة، أفعال ملبّسة بالحنان لكنها مشروطة، وظهورهم في وقت حاجتها كان دومًا مؤجلًا حتى إشعارٍ آخر.

لم تكن غبية، لكنها أحبّت بعمى. لم تكن ساذجة، لكنها آمنت أن النقاء لا يُقابل بالخداع. كانت تظن أن الحب يحمي، أن العطاء يربّي الوفاء، أن القلوب التي تزرع فيها ضوءها لا تثمر ظلامًا. لكن الواقع كسرها بطريقة هادئة ومدروسة؛ لم تصرخ، لم تنكسر دفعة واحدة، بل تهشّمت على مهل، كل مرة كان أحدهم يتسلل من قلبها ليطعنه ويختفي، تخلّفت فيها شظية لا تشفى.

ولأنها لم تتعلم الحذر مبكرًا، تكرر الطعن. وكل مرة كانت تبني الجدار من جديد، أكثر صلابة، أكثر عزلة، لكنها تعود وتفتح نافذة صغيرة على أملٍ جديد، فتُخذل مجددًا. لم تكن لعنتها في الحب، بل في الظن الحسن. في أنها تُحب أكثر مما يجب، وتصفح قبل أن يُطلب منها الصفح، وتُعطي حتى لا يبقى فيها ما يُعطى.

كانت مثل الشجرة التي لا تملّ من حمل أثقال الطيور وأعشاشها، حتى حين تُكسر أغصانها، لا تسقط، بل تُنبت غيرها. لكن ماذا يحدث حين تأتي الفأس من داخلها؟ من الشريان الذي كانت تظنه جذرها؟ تنهار بصمت، لا لأن الريح قوية، بل لأن الخيانة جاءت من داخل الحصن.

ويا للمفارقة… ما كان يؤلمها لم يكن فعل الخيانة ذاته، بل اكتشاف أن الحب وحده لا يكفي. أنها مهما أحبّت، لن تضمن الوفاء. وأن من يُطعَم من القلب قد يُصبح أول من يدوس عليه. الألم الحقيقي لم يكن في ما فعله الآخرون، بل في ما فعلته هي: في سذاجة التوقع، في ثقتها التي منحتها من دون قيد أو شرط، في الأحلام التي شاركتها معهم وكأنها حق مشترك.

ولكنها تعلمت. لم تُصب بالقسوة، لكنها صارت أكثر وعيًا. لم تُغلق قلبها، لكنها فتحت عينيها. لم تعد تبحث عن المدى في عيون الناس، بل صارت تقرأ ما بين السطور. أدركت أن بعض الأسماء لا تستحق أن تُكتب بالحبر الذي سُكب من مشاعرها، وأن بعض القلوب لا يصلح أن يكون لها مفتاح.

الخذلان، مهما تكرر، لا يُميت القلب، لكنه يُعيد تشكيله. يُنضجه. يجعل نبضاته أكثر حذرًا، وعطاءه أكثر انتقاء. وقد أدركت الآن، بعد كل هذا الوجع النبيل، أن خسارة من لا يقدّر نعمة. وأن الحب لا يُقاس بما تمنحه، بل بمن يبادلك الصدق فيه. وأن الضلع المستقيم… لا يُطعنك.

وهكذا، في لحظة صدق مريرة، لم تعد تنتظر من أحد أن يُنقذها. عرفت أنها وحدها خلاصها، وأن من لا يُشعل النور في حياتك، لا يستحق أن يعيش في دفئك. كتبت نهاية القصة، ثم بدأت من جديد، لا تحمل سكينًا في ظهرها، بل درعًا على صدرها، وقلبًا ينبض… لكن بحكمة.

مساحة إعلانية