رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ما يدعو للعجب هو بقاء أسعار برميل النفط لفترة غير قصيرة في حدود 100 دولار للبرنت رغم التقلبات الكبيرة القوية في الأسواق من ناحيتي العرض والطلب. لا يمكن إنكار أهمية الطاقة للحياة، لذا يحاول الإنسان على مدى الأجيال الحصول عليها حتى لو اضطر إلى القيام بالحروب العنيفة. بداية من الخشب كمصدر للطاقة، تحول العالم إلى الفحم في القرن الثامن عشر مما سمح للثورة الصناعية بأن تحصل. من الفحم إلى النفط حيث حصلت ثورة في الإنتاج والإنتاجية والتطور والتنمية. حتى الخمسينيات، سيطرت شركات قليلة عملاقة أهمها سبع على إنتاج وتسويق النفط العالمي. أصبح النفط سلاحا اقتصاديا وسياسيا رئيسيا لأهميته في تفعيل الإنتاج العالمي وتحقيق النمو. هنالك محاولات عدة اليوم لتنويع مصادر الطاقة منها الجديد نسبيا كالشمس والنووي والرياح، والقديم كالفحم بعضها نجح لكن النفط مازال المصدر الأساسي للطاقة عالميا. حصل الخلل خاصة في ميدان النقل حيث مازال القطاع يتكل بـ 96% من نشاطاته على النفط بينما تنوعت أكثر مصادر القطاعات الأخرى. هنالك واقع آخر وهو أن 60% من النفط المنتج عالميا يذهب إلى النقل مما يجعله المصدر الأساسي بل سيبقيه على ذلك طويلا، لا بديل حتى اليوم عن النفط للنقل.
حقبة الشركات الغربية الكبرى المسيطرة على الإنتاج انتهت مع تزايد دور الدول المنتجة بفضل الوعي السياسي للشعوب والحكام، فأسست مجموعة "الأوبيك" لتتولى تنظيم وتنسيق الإنتاج حتى تبقى الأسعار مناسبة للمنتجين. تشكلت مجموعة الدول المستهلكة في المقابل مما جعل من عمليات العرض والطلب في القطاع النفطي غير حرة، أي مقيدة بمصالح مجموعتين كبيرتين تتواجهان عند اللزوم كما تتعاونان في أحيان عدة. تطورت الأدوات المالية النفطية في الأسواق العالمية مما جعل من النفط ليس فقط سلعة تجارية بل أداة استثمار تجذب التوقعات والمخاطر في أهم البورصات في الولايات المتحدة وأوروبا. أصبحت عمليات العرض والطلب معقدة وتتكل ليس فقط على الحاضر بل على التوقعات المستقبلية للسوق التي لا يمكن حصرها. ما الذي يحصل اليوم في أسواق النفط؟
أولا: في الإنتاج هنالك تقلبات كبرى تتلخص في انخفاض الإنتاج الليبي نتيجة الأوضاع العنيفة المقلقة التي تمر بها البلاد، الأوضاع العراقية ليست جيدة وتؤثر على الإنتاج وهنالك تغيرات كبرى في السياسة تنعكس سيطرة على الأرض لمجموعات سياسية دينية متطرفة. في نيجيريا، العنف والفوضى والأمن والخطف تجعل كلها الإنتاج متقلبا بل معرضا للمخاطر مع إبقاء حوالي 3.5 مليون برميل من النفط خارج السوق يوميا. في فنزويلا، من الصعب زيادة الإنتاج لأن الاستثمارات لم تحصل خلال وقت طويل، مما جمد تطور الطاقة الإنتاجية للبلاد. في إيران، موضوع العقوبات بشأن النووي معروف، إلا أن الإنتاج الإيراني سيرتفع أكثر في حال تم الاتفاق مع مجموعة 5 + 1 وبالتالي تعود إيران بقوة إلى الأسواق. أما العقوبات المتزايدة على روسيا بسبب الوضع الأوكراني، فلابد وأن تؤثر على العرض وبالتالي على الأسعار. كل ما سبق يشير إلى أن الأسعار سترتفع إلى حدود أعلى بكثير مما هو عليه اليوم. لم يحصل، لماذا؟ لابد من الانتقال إلى الطلب كما إلى مزايا العرض الجديد.
ثانيا: الطلب الأوروبي ضعيف بسبب الأوضاع الاقتصادية التي يمكن وصفها بالركود والتي تحدث تقلبات كبرى اجتماعية وسياسية منها ارتفاع حصة أحزاب أقصى اليمين في الانتخابات البرلمانية الأوروبية وربما لاحقا في الانتخابات الوطنية. أوروبا في خطر سياسي نتيجة انتشار التطرف الذي يتعزز في أوقات الضيق الاقتصادي. لذا لابد من عمل المستحيل لتنشيط النمو ومحاربة البطالة كما الفقر.
ثالثا: ما هي مزايا العرض الجديد؟ هنالك النفط الآتي من الصخور الذي ينتج عبر ضخ المياه تحت الأرض بقوة كبيرة مما يساهم في تفتيتها وتحويلها إلى نفط وغاز. المياه وحدها لا تكفي، بل يجب إضافة مواد كيميائية تقتل البكتيريا وتساعد بل تسبب هذا التفتيت. هنالك من يعترض على هذه الطريقة المعتمدة في أمريكا منذ سنة 1940 في الإنتاج من ناحية التلوث الذي تسببه للمياه الجوفية، وبالتالي يمكن أن تضر بالإنسان والبيئة. تم استخراج النفط من حوالي مليون بئر أمريكي حتى اليوم. إلا أن التجربة الأمريكية خاصة في ولاية بنسلفانيا تشير إلى عكس ذلك بسبب تفتيت الصخور على مستويات منخفضة جدا، بينما تسحب المياه من أعماق أقل بكثير مما يمنع مزج السوائل. أسهم الاستخراج الصخري في إبقاء أسعار الطاقة منخفضة كما في ارتفاع العمالة في القطاع، كما خف الاعتماد نسبيا على الفحم الملوث الأكبر. نشير هنا إلى أن الولايات المتحدة خفضت الاستيراد وتعتمد أكثر فأكثر على الإنتاج الصخري الداخلي وربما تصدر قريبا النفط الخام. انخفض الاستيراد النفطي الأمريكي من 60% من الاستهلاك إلى 28%، مما سحب الضغط على الطلب في الأسواق العالمية. كما أن كندا زادت إنتاجها تعويضا. في غياب هذين العاملين، لشاهدنا ربما سعر نفط في حدود 150$ للبرميل الواحد.
رابعا: عطفا على البند السابق، لابد من ذكر انخفاض الطلب الأمريكي على النفط النيجيري الذي تدنى من مليون برميل يوميا في سنة 2010 إلى حوالي 38 ألفا اليوم، مما سمح لآسيا باستيعاب هذه الكمية الآتية من القارة السوداء. أسهم هذا الواقع في تخفيف التشنج في الأسواق، وبالتالي أراحها من ناحيتي العرض والطلب.
خامسا: هنالك واقع استثماري جديد في النفط. بينما كانت الشركات ترفع إنفاقها الاستثماري بحوالي 14% سنويا منذ سنة 2005، توقفت عنه بسبب عامل الطلب وعدم إمكان تسويق الإنتاج. تخفض الشركات اليوم إنفاقها الاستثماري، مما يمكن أن يؤثر ارتفاعا على الأسعار في المستقبل القريب.
هل يستمر هذا الهدوء في الأسواق؟ ما هي العوامل المؤثرة وكيف تتجه؟
أولا: تشير الإحصاءات إلى أن الإنتاج النفطي خارج مجموعة الأوبك سيرتفع بكمية 1.7 مليون برميل في اليوم خلال هذه السنة بينما يرتفع الطلب 1.4 مليون فقط تبعا لمجموعة الدول المستهلكة مما يساهم في إبقاء الأسعار مستقرة.
ثانيا: انخفاض النمو الاقتصادي الصيني مما ينعكس انخفاضا في الطلب على النفط. هنالك تحول كبير في خصائص أسواق النفط أي تبدل مصادر التغيير من العرض في العقود الماضية إلى الطلب اليوم. الطلب يحرك الأسعار اليوم أكثر بكثير من العرض، مما يشير إلى ضعف سيطرة المنتجين على الأسعار.
ثالثا: المخزون النفطي الأمريكي هو في أعلى مستوياته بسبب ارتفاع الإنتاج الداخلي مما يساهم في إبقاء الأسعار العالمية منخفضة. يساهم هذا الواقع في إبقاء التوقعات منخفضة كما المضاربات متحفظة لغياب معالم التغيير الواضحة والمحتملة.
جميع هذه العوامل تشير إلى بقاء الأسعار مستقرة إلا إذا حدثت مستجدات طارئة إيجابية أو سلبية كعودة الإنتاج الليبي إلى سابق عهده كما الإيراني والعراقي وغيرهما.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
5157
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3702
| 21 أكتوبر 2025