رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
إن سياسة البشر وإدارة المجتمعات هي من أجَلّ وأدق المسؤوليات، فالاختلافات الكائنة بين النوع الإنساني تتطلب عقلا رجيحا ومنطقا صحيحا لإدارة النزاعات وترشيد القرارات وتحويل الاختلافات إلى طاقة خلاقة للبناء والاستثمار، وهذا المرتقى الصعب لا يمكن أن يَتَسَنَّمه إلا العارفون بالسياسة علما وفكرا وممارسة.
أولا: مفهوم علم السياسة
عرّف ابن الأثير السياسة فقال: "السياسة: القيام على الشيء بما يصلحه."وتابعه على ذلك أكثر علماء اللغة، قال ابن منظور:"وسَاس الأَمرَ سِياسةً: قَامَ بِهِ، وَرَجُلٌ ساسٌ مِنْ قَوْمٍ سَاسَةٍ وسُوَّاس.. وسَوَّسَه القومُ: جَعَلوه يَسُوسُهم. وَيُقَالُ: "سُوِّسَ فلانٌ أَمرَ بَنِي فُلَانٍ أَي كُلِّف بسِياستِهم". وقال أيضًا: "السياسةُ: فِعْلُ السَّائِسِ، يقال: هو يَسُوسُ الدوابَّ إذا قام عليها وراضَهَا، وَالْوَالِي يَسُوسُ رَعِيَّتَه. "وقال الجوهري: "سُسْتُ الرعيّة سِياسَةً، وسُوِّسَ الرجلُ أمورَ الناس، على مالم يُسَمَّ فاعله، إذا مُلِّكَ أمرهم. "وقال الفيومي في المصباح المنير: "وساسَ زيدٌ الأمرَ يسوسه سياسةً دبرهُ وقام بأمره".
وأخرج البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء "باب ما ذكر عن بني إسرائيل" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي". قال النووي في شرحه للحديث: "أي يتولّون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية، والسياسةُ: القيام على الشيء بما يصلحه"(1). وقد ورد تعريف السياسة في أدبيات الفكر الإسلامي القديم بأنها:
1- تعريف ابن عقيل: "السياسة ما كان فعلا يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به الوحي".
2- تعريف ابن الملقن: "السياسة: القيام على الشيء والتعهّد له بما يصلحه".
3- تعريف المقريزي بأنّها: "القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال".
4- تعريف بن نجيم الحنفي: "السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي"(2).
ومع تطور العلوم ومناهجها وأدواتها وتخصصاتها، انتقلت السياسة من مجال الفن والمهارة إلى مجال المعرفة الإبستيمولوجية والإختصاص العلمي، فأضحت معالمها أكثر وضوحا ونضوجا، فعرفت جامعة كولومبيا علم السياسة بأنه: "علم دراسة الحكومة، ودراسة عملية ممارسة السلطة السياسية ودراسة المؤسسات السياسية والسلوك السياسي"(3). أي أن هذا العلم يهتم بدراسة آلية الحكم والمؤسسات السياسيّة بكلتا نوعيْها (التشريعيّة والتنفيذيّة) والتنظيمات غير الرسميّة كجماعات الرأي العام والأحزاب، كما أن هذا العلم يُعنى بدراسة جميع النشاطات السياسيّة للأفراد، كعمليات الاقتراع والتصويت في الانتخابات وغيرها. وفي مايلي نقدم بعض تعاريف وخصائص هذا العلم:
1 - علم السياسة هو علم إدارة الدول والأنساق المجتمعية، والعلاقات الدولية من منظور تفاعلي.
2 - هو العلم الذي يضطلع بتقديم المقاربات والمناهج العلمية لبناء الدول الحديثة وإدارة الأزمات وحل المشكلات على الصعيد الداخلي والخارجي.
3 - هو العلم الذي يدرس شكل الدولة ونظامها وأنساقها ومرتكزاتها والفواعل والمتغيرات المرتبطة بها.
4 - هو علم جامع للأدوات والمقاربات التحليلية في العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والقانونية إضافة إلى خصوصيته الموضوعية.
5- هو العلم الذي يبحث في كل السبل الآمنة والممكنة لحل الأزمات بعيدا عن العنف، إذ بغياب السياسة تحضر الحرب والصدام والدمار.
6- هو علم تتماهى فيه ملكات الإبداع والتحليل والاستنباط والاستشراف والنظر الاستراتيجي، والتأسيس والتجديد بروح الواقعية والموضوعية.
7- السياسة هي علم على مستوى التأصيل والتنظير وفن وإبداع على مستوى الممارسة والتطبيق.
ثانيا: أهم اختصاصات العلوم السياسية
اختصاصات علم السياسة تجمع بين العديد من العلوم والمقاربات المعرفية التي توفر للباحث السياسي شموليةً في الفكر، وعمقًا في التحليل، وتعددًا في المقاربات العلاجية، واستغراقًا لكافة أبعاد الظاهرة ومتغيراتها، وأهم هذه الاختصاصات: تاريخ الفكر السياسي، نظريات الدولة، مدخل إلى العلاقات الدولية، الأنظمة السياسية المقارنة، الاقتصاد السياسي، علم الاجتماع السياسي، مدخل لعلم القانون والالتزامات، مدخل لعلم الإدارة، التنظيم السياسي والإداري، المنظمات الدولية، المالية العامة، المجتمع المدني، إدارة الجماعات المحلية، الإدارة العامة المقارنة، الحكم الراشد، نظم التشريع، المؤسسات المالية والنقدية، نماذج أنظمة الحكم، النظم الانتخابية والحزبية، إدارة الموارد البشرية، إدارة الجودة الشاملة، التنمية الإدارية، رسم السياسة العامة وصنع القرار، التنمية الشاملة والمستدامة، منهجية البحث العلمي، الدبلوماسية والتفاوض، الجغرافيا السياسية، نظريات التكامل والاندماج، الدراسات الإستراتيجية.
فعلم السياسة بالمجمل يتناول بالتحليل والتأصيل المواضيع التالية:
1- الدولة والمجتمع والسلطة وكيفية تأسيسها وتوزيعها وإدارتها.
2 - أنواع السلطات (القضائية والتشريعية والتنفيذية) وصلاحياتها والعلاقة بينها.
3 - النظام العام للحكم ومؤسساته وأدواته.
4 - النظام السياسي وأشكاله وطرائق تداول السلطة وتوظيفها.
5 - تنظيم الدولة وسيادتها ومؤسساتها وتنمية المجتمع.
6 - العلاقات الدولية وأصول الدبلوماسية وإدارة النزاعات الدولية.
7 - السياسة الخارجية والمنظمات الدولية والتكامل والاندماج.
8 - التنمية الإدارية والإدارة العامة والمحلية.
9 - الفكر الإستراتيجي والاستشراف المستقبلي.
10 - الاقتصاد السياسي الوطني والدولي وتفاعلاته السياسية.
ثالثا: أهمية العلوم السياسية في إدارة المجتمعات الحديثة
لقد أبانت الأزمات السياسية التي ألمت بالدول العربية منذ 2011 على الأهمية الاستراتيجية لتخصص العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ودور النخب العلمية والعقول السياسية الاستراتيجية في مأسسة التفكير والتخطيط السياسي وفق رؤى منهجية وتصورات واقعية وعلمية، فالتنظير السياسي لحل الأزمات وإدارتها ينطلق من المعاهد البحثية وغرف وعلب التفكير الاستراتيجي THINK TANKS ومراكز البحث المتخصصة في الاستشراف والمستقبليات، وهي بنوك لجمع رأسِ مالِ الأفكار وإنتاجها وهندسة الاستراتيجيات وتطويرها.
ومما يثير العَجَبَ؛ أنه في الوقت الذي يحظى فيه هذا التخصص بالاهتمام البالغ لدى الدول الرائدة، والتمكين المستحق والتطوير الدائم لأدواته المنهجية ومقارباته العلمية ومؤسساته البحثية، نجد الكثير من الدول العربية تحارب هذا التخصص والبعض منها تمنع دراسته كليا، ظنا منها أنه تخصص يسبب "وجع الرأس" وينمي حاسية "الوعي السياسي" لدى الشعوب المستَبَدَّةِ ويفتح أقْفَالَ عقولها حول مفاهيم: الشرعية والمشروعية والمجتمع المدني والتنشئة السياسية والنظام السياسي وأشكاله والديمقراطية التشاركية والتمثيلية، التداول على السلطة، والحكم الأوتوقراطي والثيوقراطي والديمقراطي، أنواع السلطة، والحكم الراشد والمساءلة، وغيرها من المفاهيم المركزية التي تذكي جذوة الوعي السياسي في المجتمع، وطبعا هذا النوع من "الوعي المريب" لا يحبذه المستبد الموتور الشغوف باحتكار السلطة لا بناء الدولة.
لقد أضحت السياسة في بلادنا العربية -للأسف- بعد أن حُرّفت معانيها ومراميها بممارسات شوهاء، لصيقة بفنون الكذب والاحتيال والختل والمكر والدهاء، وأصبح وسم "محلل سياسي" يطلق على كل مُتَحَذْلِقٍ متلون كالحرباء، فَسَقِمَتْ فُهُومُها عندما اقتحم حرمتها الأدعياء، وتَسَوّرَ محرابها الدخلاء، وأصبحت حرفة من لا طموح له ولا رجاء، ومهنة من لا علم له ولا ذكاء، وسُلَّمًا للتزلف والتسلق بلا حياء.
المصدر: الجزيرة
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6318
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3810
| 21 أكتوبر 2025