رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
انتشر الإنترنت في العالم العربي بسرعة فائقة تعدت وتيرة انتشار تكنولوجيات الاتصال المختلفة التي سبقته سواء تمثل ذلك في التليفزيون أو الراديو أو الصحف أو الهاتف.
وتؤكد الدراسات أن الفئة الأكثر إقبالا على استعمال الإنترنت هي فئة الشباب، وهذه الفئة إذا تكلمنا عن القيم والمبادئ والسلوكيات هي الفئة الأكثر تأثرا بما يبث ويذاع وينشر عبر وسائل الاتصال المختلفة وعلى رأسها الإنترنت. فإقبال الشباب على الإنترنت أصبح ممارسة يومية وجزءا لا يتجزأ من حياته اليومية.
تشير الدراسات إلى أن الشباب ببلوغهم سن الثمانية عشرة يكونون قد قضوا وقتا أكثر أمام التليفزيون من الوقت الذي قضوه في قاعات الدراسة. مع انتشار الإنترنت والانتشار السريع جدا في استعماله والتفاعل معه تتغير المعادلة تماما ويصبح الإنترنت هو الوسيلة الأولى قبل التليفزيون والمدرسة. فالشباب اليوم يتعامل مع الإنترنت في البيت وإن لم يتوفر له ذلك فيكون في المدرسة أو الجامعة، أو الأماكن والساحات العامة وإن تعذر ذلك فيكون في مقهى الإنترنت.
من جهة أخرى نلاحظ أن الإنترنت يتميز عن باقي وسائل الاتصال التي عرفتها البشرية بالتفاعلية وبالتنوع وبغزارة المعلومات وبالاتصال والتحاور والتسامر مع مئات الآلاف مباشرة وبتكاليف بسيطة جدا وفي الكثير من الأحيان بالمجان.
يعتبر الإنترنت من تكنولوجيات الاتصال الأكثر انتشارا والأكثر إثارة للجدل وللعديد من النقاشات والحوارات حول تأثيراتها وانعكاساتها وتداعياتها المختلفة سواء بالإيجاب أو بالسلب. ويرجع الاهتمام الكبير بشبكة الإنترنت إلى عدة عوامل من أهمها: التفاعلية والمعلومات والبيانات والتحليلات والدراسات والنصائح والإرشادات حول العديد من المواضيع والمجالات.
كما تتميز الشبكة بفرص التواصل بين مستعمليها وتوفر لهم خدمات عديدة تساعدهم في إشباع العديد من احتياجاتهم كالحصول على المعلومات والأخبار وكذلك إشباع رغبة التسلية والهروب من الواقع والتفاعل الاجتماعي والاسترخاء والتسلية. فالشبكة إذن تتميز بغزارة المعلومات والتنوع والتفاعلية. ففي ما يخص المعلومات والأخبار نجد أن معظم جرائد ومجلات ومطبوعات وإذاعات وتليفزيونات العالم يتوفر على مواقع على الشبكة.
من جهة أخرى توفر الشبكة خدمات مثل البريد الإلكتروني، والتجارة الإلكترونية والحكومة الإلكترونية والتعليم الإلكتروني ومجموعات الدردشة ومجموعات الأخبار والفيسبوك وتويتر وغيرها كثير. فالإنترنت تعتبر تكنولوجيا ووسيلة الاتصال في الألفية الثالثة حيث نجدها في جميع المجالات والميادين كالسياسة والاقتصاد والتجارة والإعلان والمجال الأكاديمي ومجال البحث العلمي ومجال الخدمات ومجال السياحة والاتصال والدبلوماسية والإعلام والتسلية والفن والموسيقى والقائمة قد تطول وتتوسع إلى كل ما يخطر ببال الإنسان.
ما هي إشكالية استعمال الإنترنت من قبل الشباب؟، وما هي استخدامات هذه التكنولوجيا الجديدة؟، وما هي الفوائد أو المساوئ والسلبيات التي يجنيها مستخدمو الإنترنت من إبحارهم وقضائهم ساعات وساعات أمام شاشة الكمبيوتر يتصفحون مئات المواقع وعشرات الآلاف من الصفحات؟، كما أنهم يتسامرون ويتحاورون لساعات وساعات في غالب الأحيان على حساب الدراسة والعائلة والمجتمع والالتزامات العديدة.السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو كيف يستعمل الشباب الإنترنت؟ وهل يحسن استعمال الشبكة في التحصيل العلمي والأكاديمي والمعرفي؟، هل أداء الشباب في المدرسة زاد وتطور؟، هل زاد التحصيل المدرسي عند الشباب؟، وهل تدعمت قيم ومبادئ وأخلاق وسلوك الشباب وفق الدين الإسلامي والقيم الأخلاقية النبيلة؟، هل لعبت الأسرة دورها في توجيه أبنائها لاستعمال هذه التكنولوجيا الجديدة في الاتجاه السليم؟، هل لعبت المدرسة والجامعة دوريهما في تسخير الشبكة لخدمة المنهج الدراسي والجامعي؟.
ما نلاحظه مع الأسف الشديد يدق ناقوس الخطر، فلا العائلة لعبت دورها ولا المدرسة ولا المجتمع والكل يتفرج على واقع يزداد خطورة يوما بعد يوم وعلى انفلات وانجراف لا مثيل لهما سواء من الناحية القيمية أو الناحية الأخلاقية والسلوكية. صحيح أن الشبكة فيها الكثير من الفوائد والإيجابيات كما أنها تحتوي على مواقع عربية وإسلامية تدعم قيم ومبادئ الشباب لكن هذه المواقع ما هي إلا قطرات في محيط يحتوي على مئات الآلاف من المواقع والمعلومات والأطروحات والأفكار والأيديولوجيات.فالمواقع العربية الإسلامية واللغة العربية لا يتعديان واحدا بالمائة مما هو موجود على الشبكة العالمية. ما يفتقد إليه الشباب مع الأسف الشديد هو التحصين والتأطير والتوجيه والإرشاد، وفي ظل انعدام هذه الإجراءات العملية التنظيمية والتوجيهية لاستعمال الإنترنت تكون النتيجة وخيمة على الشباب.
تؤكد الدراسات أن فئة الشباب هي الفئة الأكثر استخداما للإنترنت وهذه الفئة بالذات هي الفئة التي تتميز في المجتمع بالمغامرة والإثارة والفضول وهي الفئة التي تحاول التمرد على المجتمع وتبني الجديد ومحاولة التأقلم معه، بل في بعض الأحيان الانسلاخ مما هو موجود والبحث عما يأتي من الغير ومن وراء البحار.
من جهة أخرى تعزز الإنترنت الثقافة الفرعية عند الشباب على حساب الثقافة العامة السائدة. ما نلاحظه في معادلة الشباب والإنترنت هو ظاهرة سوء استخدام الشبكة من قبل الشباب أو إدمان هؤلاء للانترنيت وهذا ما يؤدي في غالب الأحيان إلى تداعيات وانعكاسات سلبية على أداء الشباب في المدرسة وفي العائلة وفي المجتمع. وهنا نلاحظ التأثر بالإعلانات المضرة بسلوك الشباب إضافة إلى ظاهرة إقامة علاقات افتراضية غير شرعية مع الجنس الآخر والدخول والإبحار في المواقع الإباحية وغيرها من التصرفات والسلوكيات السلبية التي تخل بشخصية الشباب وبأخلاقهم وقيمهم ومبادئهم.فكثرة استخدام الإنترنت تؤدي إلى الإحساس بالعزلة وبالانسلاخ الثقافي والحضاري والاجتماعي بحيث أن الشباب يعيش في عالم آخر عبر الإنترنت يكون بعيدا كل البعد عن العالم الواقعي الذي يعيش فيه وهذا ما يؤدي إلى نوع من الانفصام وضعف قيم وأدبيات الاتصال الاجتماعي والانسلاخ عن الواقع وعن النسيج الاجتماعي الذي يعيش فيه الشباب. فالذوبان في الآخر من خلال الإنترنت يؤدي إلى تخصيص وقت كبير جدا لعالم الإنترنت على حساب التواصل العائلي والتواصل مع الأصدقاء ومع الفضاء الطبيعي للشاب. وكنتيجة لكل ما تقدم نجد الشباب يتهرب من مسؤولياته الاجتماعية والتزاماته مع عائلته وزملائه ومدرسته. الاستخدام السيئ للانترنيت في غياب تدخل الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني وفي غياب التشريعات والقوانين والتحصين والتوجيه السليم يؤدي إلى نتائج عكسية حيث يصبح الإنترنت وسيلة للهروب من الواقع الاجتماعي، ووسيلة للهروب من المناخ الطبيعي للشباب والبحث عن مناخ افتراضي لا وجود له أصلا وهذا ما نلاحظه في كثرة الدردشة ومجموعات الأخبار والاستعمالات المكثفة للبريد الإلكتروني. فالاستخدام السلبي للانترنيت وإدمانه يعيقان تطور الفرد وإقباله على التغيير من الداخل كما يؤديان إلى تقليص المحلي لحساب العالمي كما يفرز النزعة الاستهلاكية ويعززها عند الشباب ويشجع كذلك على التقليد بدلا من الابتكار.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6654
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2742
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2334
| 30 أكتوبر 2025