رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في مقالنا السابق تحدثت عن المقومات الأساسية للحضارة الإسلامية والتي لها دور كبير في قابليتها للانتشار والحضور بين الأمم، وسأبدأ في هذا المقال بالكلام عن المقومات الإيمانية والعقدية:
أولاً- العقيدة الموافقة للفطرة
إن عقيدة الإسلام تتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة لدرجة أنه لم يجد العربي الذي يعيش في الصحراء صعوبة في الاستدلال على وجود خالق لهذا الكون، حتى قال قائلهم " البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير " مستدلا على وجود الخالق ذلك بفطرته السليمة التي لم تلوثها الأفكار الدخيلة ولا العقائد الفاسدة، قال الله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم/30
فعقيدتنا سهلة سلسة ميسورة الفهم، لا تعقيد فيها ولا غموض، وعبارة " العقيدة الموافقة للفطرة " على بساطتها، ليست موجودة في دين غير دين الإسلام.
عقيدة ثابتة لا تقبل الزيادة في قضايا التشريع هناك سعة ومساحة للتفكير وإعمال العقل، أما في العقيدة فالأمر محدود جداً، لأن عقيدتنا ثابتة لا تقبل الزيادة ولا النقصان ولا التحريف، والزيادة عندنا هي في مقدار الإيمان، كما يقول الشافعي رحمه الله " الإِيمانُ قولٌ وعمل، يزيدُ وينقص، يزيدُ بالطاعة وينقص بالمعصية "، لذا فلا يحلّ لحاكم أن يبطل شيئاً منها، ولا يحقّ لعالم أو مجمع فقهي أن يجري تعديلات عليها، ومن تجرأ على ذلك سمّي فعله إحداثاً في الدين، ورُدّ عليه، لأن أصول العقيدة وأصول الشريعة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ولا تقبل الزيادة عليها أو الانتقاص منها، وفي هذا يقول نبي الرحمة محمد ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ)) البخاري.
عقيدةُ دليلٍ وبرهانٍ ومنطق
في أكثر من آية –خاصة مسائل العقيدة – يطلب الله تعالى من المشركين أن يأتوا بدليل أو برهان على ما يزعمون، وتكرر في أكثر من موضع في القرآن الكريم قول الله تعالى (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ).
فعقيدتنا عقيدة مبرهنة " لا تكتفي من تقرير قضاياها بالإلزام المجرد والتكليف الصارم، ولا تقول كما تقول بعض العقائد الأخرى "اعتقد وأنت أعمى" أو "آمن ثم اعلم" أو "أغمض عينيك ثم اتبعني" أو "الجهالة أم التقوى"... ولا يقول أحد علمائها ما قاله القديس الفيلسوف المسيحي (أوغسطين): "أؤمن بهذا لأنه محال"! بل يقول علماؤها: إن إيمان المقلد لا يقبل".
فالإنسان قد يقلد في قضايا التشريع والسلوك، لكن في قضايا العقيدة لا يكفي أن يُولد الإنسان لأبوين مسلمين، بل لا بدّ من الاقتناع بأن الإسلام هو الدين الحق، وأن الله تعالى هو المتفرد بصفات الجمال والكمال، ووحده من يستحق أن يُعبد.
عقل ووجدان
مما يميّز عقيدتنا كذلك أنها " لا تكتفي بمخاطبة القلب والوجدان والاعتماد عليهما أساساً للاعتقاد، بل تتبع قضاياها بالحجة الدامغة، والبرهان الناصع، والتعليل الواضح، الذي يملك أزمة العقول، ويأخذ الطريق إلى القلوب، لذا يقول علماؤها: إن العقل أساس النقل.. والنقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح ".
وبناء على ذلك فإننا مطالبون بأن نقدم العقيدة للناس كما أنزلها الله تعالى في القرآن الكريم، وكما بيّنها وفسّرها رسولنا الكريم، لأنها تتوافق مع العقل الذي خلقَه الله تعالى، فالوحي من الله تعالى والعقل خلْق الله تعالى فكيف يتناقضان أو يتعارضان.
العبادة الدافعة للعمارة
في كل الأديان المحرفة لا تجد علاقة بين العبادة والعمارة، أما في الإسلام فالعلاقة وطيدة، وهو يدعوك صراحة إلى أن تكون إيجابياً في هذه الكون، من خلال بذل الجهد في عمارة الأرض، قال الله تعالى (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هود/61
فالعابد الحقيقي لله تعالى هو من يضيف إلى العبادات المعروفة، عبادة عمارة الأرض، بأن يقيم حضارة ويصنع مدنية، تتفق مع مبادئ الإسلام ولا تتعارض مع أصوله، فالعبادة تدفع المسلم إلى عمارة الأرض وإصلاحها، والمسلم يتقرب إلى الله تعالى بعمارة الأرض، من استثمار لها بالزراعة، وإنتاج المحاصيل، وبناء المصانع، وإنتاج كل ما ينفع البشر، فالعمل والإنتاج في التصور الإسلامي عبادة، فليس من الإسلام ترك العمل بحجة التفرغ للعبادة.
إيمان وعمارة
الإيمان عندنا له طعم خاص، وله رؤية أعمق بكثير من الصورة التقليدية التي يتخيلها الناس، فإذا كنا نريد أن نعبد الله عز وجل حقاً، فلا بد من أن نعمر الأرض، لأن عقيدتنا عملية، وإيماننا حركي، وليس مجرد بكاء في زوايا المسجد، أو هزّ للرؤوس من روحانية الخشوع، بل هو أعمق من ذلك، وهذا ما يؤكد عليه النبي (في حديث عجيب، حيث يقول ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)) أحمد
والفسيلة هي النخلة الصغيرة، التي تحتاج إلى سنوات لتنمو وتنتج الثمر، وأتساءل هنا: لو زرعها متى ستنمو والساعة قد قامت..؟ ومن سيأكل منها إن زرعها...؟
في هذا الحديث يؤكد الرسول على قيمة العمل، وأهمية عمارة الأرض، والإيجابية في الحياة، حتى آخر لحظة من عمر الإنسان، أو من عمر هذه الحياة الدنيا.
عبادة ثم عمارة
لم تقم حضارة الإسلام الأولى على الدروشات والشعوذات، بل قامت على الإيمان الذي يحرّك نحو العمل، ومن الإيمان العملي أن يستثمر المسلم وقته في عمارة الأرض بعد أداء ما افترضه الله تعالى عليه، وهذا صريح في سورة الجمعة، حيث يقول الله تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) هذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي، والتوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض، من عمل وكد ونشاط وكسب، وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر.. وذكر الله تعالى لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش، والشعور بالله تعالى فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة، ولكنه مع هذا لا بد من فترة للذكر الخالص، والانقطاع الكامل، والتجرد المحض ".
جنود مجهولون
سئل " إبراهيم النخعي " رحمه الله ذات مرة عن رجلين أحدهما عنده مال ولديه تجارة يشتغل بها، ورجل آخر ترك التجارة وتفرغ للصلاة والعبادة أيهما أفضل؟ فقال رحمه الله: الأفضل منهما التاجر الأمين.
وقياساً على كلام " النخعي " رحمه الله أقول: يا من تشتغلون بالإعلام الهادف النظيف، إياكم أن تظنوا أن أجركم أقلّ ممن يتعبد في المسجد، ويتقرب إلى الله تعالى بالنوافل، لأن الذي يتعبّد لله تعالى منفرداً إنما ينفع نفسه، أما أنتم فنفعكم متعدٍ إلى الآخرين، فربّ برنامج واحد يُصلح مئاتٍ من الناس وألوف، وهذا في ميزان الإسلام أمر عظيم، وداخل تحت عموم قول النبي ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)) البخاري
وكذلك يا من تعملون في السياسة، لا تظنوا للحظة أن أجركم أقلّ من أجر هؤلاء الذين يقومون الليل، فرب قانون واحد تنتصرون له يرفع الظلم عن آلاف الناس، وقانون آخر تصدرونه يحارب الفساد ويحاسب المفسدين، ويقيم العدل، وهذا في ميزان الإسلام أمر عظيم.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6654
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2742
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2334
| 30 أكتوبر 2025