رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تجري العادة بمقارنة الأوضاع الاقتصادية العربية بالغربية عموما لرغبتنا في أن تتحسن أحوالنا وتتقارب مع الوقت من الغربية. إن التشابه مثالي، إذ هنالك عوائق أو فوارق كبيرة وبعيدة تفصل مجتمعاتنا عن الغربية تبدأ من التاريخ إلى الثقافة والجغرافيا وغيرها. لذا لهذا التشابه مغذى أكاديمي ونظري ونفسي كبير، لكنه يبتعد عن الواقع في العديد من الأحيان بل يقترب من الأحلام والتمنيات. مقارنة الأوضاع الاقتصادية العربية بالتركية ربما تكون أقرب إلى الواقع. من يزور تركيا دوريا يشعر بالتقدم الهائل الذي يحققه الاقتصاد بنموه وبنيته التحتية والفوقية في ظروف لا يمكن وصفها بالسهلة. مقارنة أوضاعنا بالتركية هو في محله نظرا للتقارب الجغرافي والسكاني والثقافي والاقتصادي كما للعلاقات التاريخية الطويلة الإيجابية كما السلبية التي ربطتنا بها على مدى قرون. مقارنة أوضاعنا بالتركية مهمة في وقت انتقال مصيري لتركيا بين الوجهة الأوروبية أو الشرق أوسطية. لا تقل هذه القرارات خطورة عن التحديات التي تواجه العالم العربي مجتمعا وفي كل من دوله.
يمر العالم العربي اليوم بظروف دقيقة مرتبطة بالسياسة والحريات والتنمية. العالم العربي اليوم ليس في وضع عادي، بل ربما يمر في فترة انتقالية تطول سنوات بل عقودا. الوضع الاقتصادي متقلب ليس فقط في مصر وإنما في معظم أنحاء العالم العربي بشكل أو آخر. الوضع السوري خطير ولا يمكن تنبؤ ما يمكن أن يحصل، بل إن الخسارة البشرية كبيرة والمادية لا تحصى وعملية البناء ستدوم سنوات. في الوقت نفسه تركيا حائرة بين أن تعزز فرصها للدخول إلى الوحدة الأوروبية وما يتطلب هذا الهدف من تغييرات عميقة في المؤسسات والقوانين، وبين أن تساهم مع الدول العربية وإيران في إدارة شؤون المنطقة كما يحصل بين البرازيل والأرجنتين وفنزويلا فيما يخص أمريكا اللاتينية. استقرار منطقة الشرق الأوسط يحتاج على المدى البعيد إلى المشاركة الفاعلة لكل من إيران وتركيا والدول العربية في جميع الاتفاقيات بدأ من السياسة إلى الاقتصاد. تقع المنطقة على مفترق طرق كبير وخطير يؤثر على مستقبلها.
في المؤشرات الاقتصادية، حققت تركيا نموا بلغ 4.7% في سنة 2007، 0.7% في سنة 2008 وانخفاضا قدره 4.8% في سنة 2009 بسبب الأزمة الاقتصادية الدولية التي انعكست سلبا على معظم دول العالم بل على الاستثمارات والتجارة الدوليتين. معدل البطالة التركية هو في حدود 11%، علما أنها ارتفعت إلى 14% في سنة 2009 لتنخفض فيما بعد إلى نسبتها الطبيعية بدأ من سنة 2010. عاد النمو بقوة في سنة 2010 (أي 9.2%) و2011 (8.5%) بسبب السياسات الحكيمة التي هدفت إلى تحقيق التنمية المتوازنة بل حسنت درجة تقييمها الائتماني الدولي. تحقق تركيا عجزا في الموازنة بمعدل 3%، وهذا معقول ويحترم النسب المقبولة أوروبيا عبر اتفاقية "ماستريخت". أما نسبة الدين العام من الناتج، فتبقى في حدود 40% وهي دون النسبة المقبولة أوروبيا أي 60%. من الضروري أن تخفف تركيا اقتراضها الخارجي عبر سياسات تشجع على الادخار داخليا. تشير هذه الأرقام إلى الإدارة الفاعلة بل الجدية للملف المالي الداخلي للإدارة السياسية بقيادة حزب العدالة والتنمية مع الرئيس أردوغان.
في الملف الاقتصادي الخارجي، يحقق ميزان الحساب الجاري عجزا سنويا يقارب الخمسة بالمائة من الناتج وهذا يعود إلى عجز ميزان السلع الكبير. بلغت صادرات السلع في سنة 2011"143%" من الناتج مقارنة ب 232% للواردات، فسببت عجزا تجاريا بلغ 89% من الناتج. حتى لو استثنينا الواردات النفطية (54% من الناتج) يبقى ميزان السلع عاجزا. يشير هذا الواقع إلى ضرورة تنشيط الصادرات عبر زيادة الإنتاج أولا وفتح أسواق تجارية تاليا للسلع التركية ليس فقط في أوروبا وإنما خاصة في المنطقة العربية المجاورة. بلغ الناتج التركي 774 مليار دولار في سنة 2011، لكن الحجم السكاني البالغ 75 مليون شخص خفض الناتج الفردي إلى 10 آلاف و400 دولار أي معدل منخفض أوروبيا ومقبول عربيا باستثناء دول الخليج طبعا. يشير الرقم التركي إلى الفرص الكبيرة التي تمكن الاقتصاد من النمو بشكل أكبر وأسرع، إذا استقطب الاستثمارات في القطاعات التي تحدث نموا وتستوعب العمالة الجيدة المتوافرة.
ما الذي ميز النجاح التركي النسبي؟ كيف استطاعت الوصول إلى وضعها الحالي؟ ما هي السياسات المستقبلية التي عليها اتباعها لتعزيز أوضاعها ورفع مستوى الناتج الفردي؟
أولا: لا يمكن التكلم عن تركيا من دون ذكر التأثير الكبير الذي أحدثه فيها مصطفى كمال أتاتورك مؤسسة الدولة الحديثة. وصفه "دافيد لويد جورج" رئيس الوزراء البريطاني في سنة 1922 بالعبقري، وتمنى لو كان لبريطانيا عبقريا مثله. من يقيم إنجازات الزعيم أتاتورك الضخمة خلال فترة 1923 \ 1938، يتعجب من أن النتائج لم تصبح بعد بمستوى طموحه. إنجازات أتاتورك كبيرة، منها إعطاء المرأة نفس الحقوق كالرجل، علمنة وعصرنة الدولة وفصل الدين عن السياسة، تحديث وتطوير التعليم خاصة التقني والمهني، التحديث في الفنون والقوانين والمؤسسات، تطوير القطاعات وفي طليعتها الزراعة، اعتماد الخطط الإنمائية ومد سكك الحديد لتغطي كافة أنحاء البلاد. إنجازات كبيرة في فترة قصيرة نسبيا لرجل وهب معظم ثروته الخاصة للدولة والسلطات المحلية في سنة 1937. حافظت كل الحكومات المتتالية بما فيها الحالية على الإنجازات الأساسية لأتاتورك بعد أكثر من 70 سنة على وفاته، مما يشير إلى التأييد الشعبي لها وإلى حس المسؤولية الكبير الذي يتمتع به القادة وإلى إدراكهم للمصلحة الوطنية العليا في شقيها السياسي والاقتصادي.
ثانيا: السياسات الاقتصادية الحكيمة التي نفذت عبر الزمن والتي جنبت البلاد خسائر كبرى نتيجة أزمة 2008 وسمحت للاقتصاد بالنهوض بسرعة.
ثالثا: العلاقات الاقتصادية التركية الأوروبية قوية وتتمثل خاصة في الاستثمارات المباشرة الخارجية حيث تشكل 72% منها.
رابعا: رغم الجهود الكبيرة، لا يزال الاقتصاد التركي يعاني من ضعف التنافسية بسبب ارتفاع تكلفة العمالة نسبيا مقارنة مع الدول المنافسة خاصة الآسيوية.
رغم استمرار الرغبة التركية في الانضمام إلى الوحدة الأوروبية، لابد لها من مراجعة التجربة اليونانية والاتعاظ منها خاصة أن الظروف والأوضاع متشابهة. من الضروري أن تقارن تركيا مصلحتها في الانضمام إلى أوروبا مع مصلحتها في البقاء خارجها، أي عبر توسيع وتعميق علاقاتها الاقتصادية العربية. نرى في الخيار الثاني مصلحة كبرى على المدى الطويل لتركيا يحدث توازنا في المنطقة تستفيد منه تركيا وتفيد غيرها أيضا. يتم هذا مع الحفاظ على علاقات ممتازة مع أوروبا والغرب كما الشرق.
 زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
            
            زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
            الهوينا كان يمشي، هنا فوق رمشي، اقتلوه بهدوءٍ، وأنا أهديه نعشي...... صدق القائل ومِنَ الحُبِ ما قَتل، هذا... اقرأ المزيد
153
| 31 أكتوبر 2025
 بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
            
            بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
            تُعتبر الأسرة الخلية الأولى في المجتمع وأحد أهم العوامل المؤثرة في بناء شخصية الطفل، حيث تُسهم في تكوين... اقرأ المزيد
168
| 31 أكتوبر 2025
 الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
            
            الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
            ظهرت للأسف من قبل أخصائيين غير مدربين على كفاءة وضمير مهني التجارة بمسمى العلاج وعدم الإدراك والفهم والوعي... اقرأ المزيد
87
| 31 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6639
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6495
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2697
| 28 أكتوبر 2025
