رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
رغم ما يبدو من هدوء في سطح المشهد السياسي بتونس، بسبب "التوافقات" التي ميّزت فترة ما بعد انتخابات 2014، فإن الصراع على الحكم، لا يزال يتمركز في الحديقة الخلفية للأحزاب والمؤسسات وبعض العائلات السياسية.
وتمظهر هذا الصراع الذي أطلّ برأسه أخيرا في أشكال مختلفة، تارة عبر دعوات ومحاولات لتغيير طبيعة النظام السياسي، وطورا من خلال السعي لتفكيك الائتلاف الحاكم، وإعادة صياغة مكونات الحكم على نحو جديد.
وكشفت الأيام القليلة الماضية، عن سيناريوهات عديدة في هذا السايق، كان يجري التخطيط لها بشكل علني حينا، وبصورة سرية أحيانا أخرى، ومن بين هذه السيناريوهات:
** الدعوة إلى تشكيل مجلس أعلى للدولة، يضم الرئاسات الثلاث (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب)، يتولى قيادة البلاد، بزعامة السيد الباجي قايد السبسي.
وكان محسن مرزوق، رئيس حزب "مشروع تونس"، قدم هذا المقترح أخيرا إلى رئيس الجمهورية، في محاولة لإحداث تغيير في مكونات الحكم، يتم بموجبه، إقصاء حركة النهضة من دواليب صنع القرار السياسي وإدارة الحكم.
** مسعى حثيث صلب البرلمان، قام به نواب من عدّة كتل وأحزاب، لتأسيس جبهة برلمانية من 140 نائبا، سميت بـ"كتلة الجمهورية"، الهدف منها، إضعاف التحالف القائم بين حركة نداء تونس وحركة النهضة (الحزبين اللذين يمثلان أغلبية برلمانية مريحة)، وتشكيل بديل برلماني جديد، من شأنه تغيير بنية موازين القوى صلب البرلمان، باتجاه الاعتماد على توازنات جديدة، تكون فيها الأحزاب اليسارية والليبرالية وجزء من "حركة نداء تونس" ولفيف من منظومة الحكم القديمة، القوة الجديدة المهيمنة على البرلمان، والأداة بين يدي رئيس الجمهورية، بمشروعية دستورية وقانونية واضحة، يظهر فيها رئيس الدولة، بمعزل عن هذا الصراع.
** سيناريو تغيير رئيس مجلس نواب الشعب، بداعي ضعف أدائه وعدم سيطرته على البرلمان، وبطء أشغاله التي تواجه انتقادات من المعارضة كما من الائتلاف الحاكم ذاته..وتهدف الدعوة إلى تغيير رئيس مجلس نواب الشعب، إلى إحداث صراع صلب الائتلاف الحاكم، وزعزعة الثقة في مكوناته، وإجباره على التفكير في تغيير المسؤول الأول عن البرلمان، تمهيدا لتغيير رئيس الحكومة الذي يعدّ مطلبا رئيسا للمعارضة منذ عدة أسابيع.
وتزامنت هذه التطورات، مع دعوات من أطراف سياسية وحزبية وإعلامية عديدة، بتعديل الدستور باتجاه نظام رئاسي، بدلا من النظام البرلماني المعدّل، بما يعطي أوفر الصلاحيات لرئيس الدولة..وهو ما اعتبرته أوساط سياسية وبرلمانية عديدة، "خطّ أحمر"، بل وصفته بعض الأحزاب من داخل الحكم ومن خارجه، بـ"محاولة الانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي"، سيما وأن النظام البرلماني المعدّل جاء إثر عملية توافقية طويلة ومعقّدة، بغاية القطع النهائي مع منطق الإنفراد بالسلطة، أو إعادة إنتاج الاستبداد من جديد.
والحقيقة، أن هذه السيناريوهات، جاءت إثر ظهور تباينات معلنة بين بعض مكونات الائتلاف الحاكم، على خلفية التصويت لقانون البنك المركزي، حيث وجد الائتلاف الحاكم نفسه لأول مرّة أمام "أزمة الأغلبية"، ولم يمرّ التصديق على القانون إلا بفارق صوت واحد، رغم أنه القانون الذي تعوّل عليه الحكومة لجلب استثمارات ومساعدات دولية لإنشاء بنية أساسية ضخمة في البلاد، تتيح التشغيل وتحريك الاقتصاد المعطّل.
وأسهمت عملية التصويت المنقوصة في التشكيك في وحدة الائتلاف الحاكم.
لم يردّ الائتلاف الحاكم على هذه المحاولات بشكل رسمي، أما حركة النهضة التي كانت معنية بهذه المحاولات، فقد قفزت سياسيا لتدعو بوضوح إلى "طيّ صفحة الماضي وإعلان مصالحة وطنية شاملة"، مع رموز النظام القديم، في محاولة للالتفاف على مساعي الانقلاب على الائتلاف الحاكم، ما وضع البلاد في سياق جدل قديم جديد، عنوانه الأساسي، هل نبني مصالحة وطنية بالسياسة، أم بواسطة العدالة الانتقالية؟
لا شكّ أن الوضع في تونس شديد الهشاشة، فالائتلاف يعاني من أزمة داخله، وعلاقة رئيس الجمهورية برئيس الحكومة، محل جدل لم ينته، والمعارضة ضعيفة ومشتتة، والنخب باتت جزءا من اللوبيات المالية والدوائر الخارجية، والخشية من بقاء النهضة واستمرارها في الحكم، مع اقتراب الانتخابات البلدية، لا يزال متواصلا، فيما يبدو التوافق بمثابة "ورقة الخلاص" لملفات عديدة، لا يبدو أن مستقبل الحكم في تونس، جزء منها على أي حال.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6393
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6387
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5103
| 20 أكتوبر 2025