رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. محمد عبدالله المطر

- باحث كويتي في الفكر الإسلامي

مساحة إعلانية

مقالات

951

د. محمد عبدالله المطر

التوظيف السياسي للتصوف

27 أكتوبر 2025 , 03:38ص

لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح فارقا مهما بين شيئين: الأول هو «التصوف» الذي تختلف الناس فيه؛ فهناك الذي يشجعه ويتحمس له، وهناك الذي يعارضه، وهناك من يقف على الحياد، فالتصوف المحمود يُعد من علوم تزكية النفس، والزهد، والرقائق عبر التاريخ، وخرج من التصوف شخصيات مهمة من الكبار كعلماء ومجاهدين مثل الإمام العز بن عبد السلام، وعبد القادر الجزائري، وعمر المختار وغيرهم، وأما الثاني، فهو «التوظيف السياسي للتصوف»، وهو محور حديثنا، فهذا التوظيف يسعى لتحييد الجانب التحرري والنهضوي للدين في كل شؤون الحياة وخصوصاً في تغيير الواقع، ولكن التحييد هنا ليس عن طريق إلغاء الدين أو دوره، بل عن طريق «إعادة هندسته» وتحويله من قوة تحرّك التغيير إلى أداة لحفظ الاستقرار، ومن حالة «حيوية» إلى حالة «خنوع».

وتعتمد هذه الطريقة على فكرة «التخدير»، التي تتمثل في الغوص في طقوس «شكلية» بشكل عميق مع تقديس الأولياء، وغالبًا، كثير من هذه الأفكار والطقوس ما هي إلا ثقافات خارجية، وهذا معلوم من تاريخ الإسلام بشكل عام وتاريخ الفرق الإسلامية بشكل خاص، فهم شجعوا أشكال تدين تركز فقط على الطقوس والمناسبات، مثل الموالد، وزيارة الأضرحة، وحلقات الذكر، وما يشكل الخلل هنا إن هذه الأمور تتحول من كونها ممارسات روحية لها معنى إلى هدف بحد ذاته، ونتيجة لهذا تظهر خرافات كثيرة من غير أي حدود في التفكير.

فهذا الانشغال يشغل عقول الناس عن الأمور المهمة في حياتهم ومجتمعهم، وبدلاً من أن يكون الولي مثالاً يُحتذى به في العلم أو العمل الجاد، يتحول لشخص غامض وكأنه يمتلك قوى خارقة!، فالناس تدعو له وتحرص على زيارته أكثر من دعاء الله! أو زيارة بيت الله!، فلما يواجه الشخص الظلم السياسي أو الاجتماعي بدلاً من تشجيعه على العمل والجهد لتغيير واقعه، يُطلب منه الذهاب لزيارة ضريح الولي ويستغيث به حتى يحل مشكلته بمعجزة!، وهذا كله عن طريق (شيوخ التصوف الرسميين)، الذين يفترض أن يوجهوا الناس للواقع، فقاموا بتوجيههم للانتظار والمعجزات!..

المفكر أ. محمد قطب رحمه الله لاحظ هذه الظاهرة بدقة، فقد رأى أن هذا التيار يمشي جنبًا إلى جنب مع «الفكر الإرجائي» الذي يقلل من أهمية العمل كجزء من الإيمان، فخلق حالة من «الشلل السياسي» ويؤكد أن هذا الاتجاه جعل الدين يختزل في شعائر فقط، من غير روح أو تأثير حقيقي، فالنتيجة المباشرة كانت أن الناس ابتعدوا عن «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وأصبحت المظالم كأنها شيء مقدر ولا بد منه!، وفكرة «لو الله أراد لغيره» صارت مبررا لكل شيء، فهذا ما يمكن تسميته بـ»الجبرية الواقعية» بالضبط، والجبرية كما هو معلوم في تاريخ الفرق تعني فقدان الإنسان لإرادته الحرة، وهي فكرة عقائدية معروفة ترعرعت في بدايات الإسلام.

وظاهرة التصوف المنحرف لفتت انتباه المستشرقين بشكل كبير، فكانوا يحاولون دراسة الشرق وفهمه، ولكن في نفس الوقت كان هدفهم السيطرة الفكرية عليه، ومن بين هؤلاء كان ماسنيون ونيكيلسون، ولخص المسار جولد تسيهر الذي ركز في تحليله على أن التصوف الذي يقدس الأولياء كثيرًا يسبب نوعًا من الخمول في الواقع بسبب التركيز المفرط على الطقوس الفردية، وتقديس الأولياء (وإن كانت حقيقة بعض هؤلاء الأولياء فيها شك بالأساس!)، 

إن المنهج الذي نعتمد عليه بعدما تم طرحه هو أن الإسلام يربط العبادة بالفعل نفسه فقال تعالى: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم»، كما يركز على أن التوكل الحقيقي ليس انتظاراً فقط، إنما هو الأخذ بالأسباب فكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل»، فالروحانية ليست معناها أن تنعزل عن الواقع، ولكن هي القوة التي تجعلك تغيره، فالتصوف الصحيح يصنع الإنسان الذي له دور في التاريخ، وليس الإنسان الذي يصنعه التاريخ فقط.

مساحة إعلانية