رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أغرّك منّي.. أن حُبكِ قاتلي
وأنكِ مهما تأمُري القلب يفعلِ
على مرِ العصور، كان للمُلهِمَات الحضور اللافت في حياةِ الشعراء، وأكاد أجزم أن هؤلاءِ المُلهِمَات، هن المحرك الوحيد الذي كان ولا يزال يدفع أهل هذا الفن إلى الإبداع، فهن المحرك الحقيقي للابداع في هذا الميدان، هن الفاتنات المفتونات، وهن الساحرات المسحورات، وهن الحبيبات المحبوبات.
فالكثير من المُلهِمَات يعشن في خيال الشاعر أو في ذاكرة الشاعر، وكذلك في اتجاهاته وقضاياه التي لا تنتهي، فنجد الملهمة في قرع طبول الحرب، ونجد الملهمة في صباحات الشاعر، ونجدها في سهره، في راحته وساحته، وصفو فكره، فكلما تدفقت حبيبته في خياله، تدفق ذلك الشاعر أكثر في نسج قصائده الغزلية، فنجدهن في قصائد الشعراء بلا استثناء، منذ العصر الجاهلي، حتى عصرنا هذا.
هذا الامر لا يقتصر على الرجال دون النساء، بل ان هناك سيداتٍ لديهن مُلهِم، يعمل بهن كما يعملنبالرجال، فالبعض منهن شاعرة أو اديبة او حتى لها صولات وجولات في عوالم الفن ولا شك في ذلك.
وفي هذا تقول أم الحنَّاء الأندلسية:
جاء الكتابُ من الحبيب.. بأنَّهُ
سيزورني فاستعبرت أجفاني
يا عين صار الدمع عندك عادة
تبكين في فرح وفي أحزان
فاستقبلي بالبشرِ.. يومَ لقائِهِ
ودعي الدموعَ لليلةِ الهجران
والملهمة أو الملهم إن صح التعبير، تكون في ذهن أهل الفن، كالسر، انطلاقاً من الشعر والأدب، مروراً بالفن التشكيلي والفن الغنائي، وفن العزف على الآلات الموسيقية وكذلك فن التصوير.
وهذا الأمر يحسب على ذكائهن الأنثوي، فمسألة أن تكون الأنثى (ملهمة) لمبدع ما، ليست بالمسألة العادية أبداً.
بل إن المسألة تمتد لأعمق من ذلك، تمتد لعالم استئناس الروح بالروح، (فالأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، وهذه نقطة البداية.
فكانت القصائد بمثابة تعريف لمدى عمق بعض العلاقات بين كتابها ومن يحبون من النساء، حتى تحولت بعض الاسماء العابرة التي لا تكاد تذكر في أزمنتهم، فقد تحولت إلى نقوش في ذاكرة ما يسمى بـ(سيرة الحب)، فهناك فاطمة ملهمة أمرؤ القيس، وعبلة عشيقة عنترة العبسي، وليلى العامرية، وبثينة حبيبة بن معمر، حتى ان البعض نعته بـ(جميل بثينة)، والأسماء كثر في حياة الشعراء، فالكل يعرف ما تم ذكره من أسماء في السطور السابقة، لكن التاريخ حفظ لنا الكثير من الاسماء غيرها، فهناك ولادة وأبن زيدون، وجنان وأبو نوّاس، وورد بنت الناعمة وديك الجن، وهناك أم البنين زوجة الخليفة ووضاح اليمن، والنوّار ملهمة الفرزدق، وعمر أبن ابي ربيعة وعائش، وعبدة وبشار بن برد، وهو صاحب البيت المشهور:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والاذن تعشق قبل العين أحيانا
وهو القائل:
نفّسي يا عبدُ عنّي وأعلمي
أنني يا عبدُ من لحم ٍ ودم
إن في برديَّ جسماً ناحلاً
لو توكأتِ عليهِ.. لأنهدم
ولو أن بعض الباحثين أصر على (أن اغلب الشعراء، لم يصرحوا بالأسماء الحقيقية لملهماتهم)، بسبب غيرة العرب، وأنها قد تؤدي إلى الحروب، وفي وقتنا الحالي، قد تؤدي إلى مشاكل جسيمة، وأنا أضم صوتي لهم، بأن أغلب الشعراء لا يصرحون بأسماء ملهماتهم، بل أجزم أن اغلب ما ورد من أسماء نسوية في الشعر العربي، بشقيه (الفصيح والنبطي) هي أسماء وهمية لا تمت للواقع بصلة.
ولكن قصة (الأميرة دعد)، والتي اعتبرت في ذلك الوقت ملهمة الكثير من الشعراء، والذين شدّوا الرحال إليها، بقصائدهم الغزلية، وكما ذكر التاريخ لنا، أن هناك شاعر واحد فقط، استطاع ببراعته، أن يجعلها تُعجب به، لكنه قتل، فكان مجهولا وكانت قصيدته في دعد هي قصيدته (اليتيمة) في الشعر العربي، بل إنها أجمل ما قالته العرب في الغزل، كما ينعتها البعض.
فكانت تسمى باليتيمة، لأسباب اختلف الباحثون فيها، ومن تلك الأسباب بأن صاحبها مجهول، أو لأنها القصيدة الوحيدة لشاعرها، والبعض الآخر رجّح بأن هذه القصيدة متفردة في جمالها ورصانتها، فلا شبيه لها من القصائد، حتى إن البعض أشار إليها بأنها (قصيدة أسطورية).
ويرى البعض أن شاعرها هو (دوقلة المنبجي)، فيقول في عرضها:
آهـ.. على دعدٍ وما خلقت
إلا.. لطول ِ تلهفي دعـــدُ
بيضاءُ قد لبسَ الأديمُ.. أدِ
يم الحُسنِ فهو لجلدها الجلدُ
ويزين فوديها إذا حسرت
صافي الغدائر فاحم ٌ جعدُ
فالوجه مثل الصبح مبيضُّ
والشعر مثل الليل مسودُّ
ضدّانِ لمّا أستجّمعا حسُنا ً
والضدُ يُظهِرُ حُسنهُ الضدُ
وبالمناسبة، سأل بعض النساء قيس بن الملوح عن ليلى، فقلن له: ما الذي يعجبك في ليلى؟ فرد: كل شيء رأيته وشاهدته وسمعته منها أعجبني، والله إني ما رأيت منها قط إلا ما كان في عيني حسنا وبقلبي علِقا، ولقد جهدت أن يقبح منها عندي شيء أو يسمج أو يعاب لأسلو عنها، فلم أجد.
فقالت له النساء صفها لنا، قال:
بيضاءُ، خالصةُ البياضِ كأنها
قمرٌ.. توسط جُنحِ ليل ٍ مبردِ
موسومةٌ بالحسنِ ذات حواسدٍ
إن الجـمـالَ مـظـنـةٌ.. للحسدِ
وترى مَـدَامِعـها تـرقرقُ مقلة
سوداء ترغبُ عن سوادِ الاثمدِ
خودٌ إذا كثُر الكلامُ.. تعوذت
بِحِمَى الحياءِ وإن تكلّم تَقصِدِ
وفي الختام، للأنثى في الغزل، كلام تسيل منه الغيوم وتغني على أطرافه العصافير، تقول حفصة بنت الحاج:
أغار عليك من عيني ومنِّي
ومنكَ ومن زمانك والمكانِ!
ولو أني خبأتُكَ في عيوني
إلى يوم القيامة.. ما كفاني
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4854
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3597
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2877
| 16 أكتوبر 2025