رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

علي محمد اليافعي

علي محمد اليافعي

مساحة إعلانية

مقالات

4147

علي محمد اليافعي

بطولة حذيفة بن اليمان

13 يونيو 2016 , 01:35ص

نشأ والد الصحابي حذيفة بن اليمان في مكة، وكان اسمه حُسيل بن جابر العبسي، عاش بين أهل مكة كواحدٍ منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم، وظل في عيشته هذه مطمئنا آمنا، لا يكدر هناءها، ولا يعكر صفاءها شيء من شرور الأهواء، ولا صروف الأيام، حتى قُدّر لحسيل بن جابر، أن يصيب في مكة دما، جعله طِلبة للثأر الذي لا يرضى بشيء سوى سفك دمه، ولم تكن له منعة في قومه تكفيه وتذود عنه، فلم يجد حُسيل من بعدُ بدا من أن يترك مكة فارا بحياته إلى يثرب.

هناك في يثرب استقر بحسيل المقام، وحالف بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس اليمانية، القبيلة التي نزحت من قديم من اليمن، فسمي لذلك حسيل باليمان، حتى لم يعد يعرف إلا بهذا الاسم الجديد، ثم تزوج منهم، وولدت له زوجه ابنه حذيفة، الذي أصبح له في الإسلام شأن أيُّ شأنٍ، سنعلمه فيما يأتي.

شب حذيفة في يثرب، وطن أبيه الذي اختاره بديلا عن وطنه الأصلي، شب هنالك مع القوم الذين شاء القدر لهم أن يكونوا أنصاراً لرسول الله، عليه الصلاة والسلام، وأن تكون مدينتهم موطناً لدعوة الإسلام الذي شاع نوره وأضاء ما حوله، وكان للأنصار أوسهم وخزرجهم حظٌ عظيم من نوره، وفعل جليل لنصرته، في تلك المدينة سمع اليمان وابنه حذيفة، وابن آخر له اسمه صفوان، عن الإسلام، وعلموا الكثير عن دعوة ورسالة النبي الكريم محمد، عليه الصلاة والسلام، ممن دخلوا دين الله من قومهم، وقد كانوا كثيرا، فعزموا على المجيء إلى رسول الله لمبايعته، والدخول في الإسلام، وقد صح عزمهم فقدموا على الرسول الكريم، وأسلموا لله رب العالمين.

حين رأى رسول الله حذيفة، تخايل فيه علامات النجابة والفطانة، وتوسم فيه خيرا كثيرا، فأحب إكرامه فقال له:(إن شئت كنت من المهاجرين، وإن شئت كنت من الأنصار، فاختر لنفسك ما تحب)، ولأن حذيفة كان قد ولد وتربى مع الأنصار في المدينة، اختار أن يكون من الأنصار. لم تنقطع صلة اليمان بموطنه الأول مكة، دار مهده وصباه وشبابه، فكان يزورها من حين إلى آخر، بعد أن ابتعد عنها سنينَ طويلة، وفي إحدى زياراته صحبه ابنه حذيفة إلى مكة، وذلك بعد إسلامهما، وبعد هجرة الرسول إلى المدينة، فحدث أن أمسك بهما المشركون الذين كانوا متهيئين للخروج إلى قتال المسلمين قبل معركة يوم بدر، وأسروهما واشترطوا عليهما مقابل أن يطلقوهما ألا يقاتلا مع المسلمين، وأخذوا عليهم العهد بذلك، فأعطوهم العهد وانطلقا في سبيلهما حتى بلغا مشارف المدينة ولقيا الرسول فأخبراه خبرهما مع قريش، فقال لهما:(نستعين الله عليهم، ونفي بعدهم)، وبذلك لم يشهد حذيفة ولا أبوه اليمان، يوم بدر العظيم، وتلك هي أخلاق المسلمين المؤمنين، وما يمتازون به من خِلال، التي من أبرزها الصدق والوفاء بالعهد، ولو مع الأعداء، ومع من يكرهون، وما ذلك إلا من تقوى الله عز شأنه، التقوى التي حلت في قلوبهم، فجعلتها قلوبا بصيرة لا تعمى عن الحق، بل تُقر به، قلوبا بيضاءَ مملوءة بمعاني الخير والبر، بحيث تعرف المعروف، وتنكر المنكر.

ظل حذيفة بعد يوم بدر الذي لم يكتب له أن يشهده، متشوقا متطلعا إلى يوم آخرَ يُري فيه الله من نفسه تضحية وفداءً من أجل دينه الذي آمن به، وليعوض أيضا ما فاته مع إخوانه المسلمين، من عظيم الأجر الذي ظفروا به فكانوا من الفائزين، كان ذلك منه حتى بلَّغه الله يوم أحد، فخرج فيه مجاهدا في سبيل الله، جاهد في ذلك اليوم ولم يكن في حسبانه ما كان ينتظره فيه من شدة وبلاء على نفسه خاصة، وعلى المسلمين عامة، بعد أن دارت الدائرة عليهم بمخالفة من خالف أوامر رسول الله، أما ما وقع على حذيفة خاصة من بلاء وشدة وكرب، فهو أن بعض المسلمين قتلوا خطأ من غير علم أباه اليمان حين لم يعرفوه، إذ لم تكن له علامة ولا شارَة مبيِّنة في زيّه، ولم يكونوا يستطيعون تمييزه من وجهه، فقد كان متلثما في معمعة الوغى، ناهيك بمُثار النَّقْع الذي غطى الوجوه، واعتلى الرؤوس، فأضعف نظر الأبصار، فما عاين حذيفة ذلك المصاب الجلل، إلا والسيوف والرماح تنوش أباه، وتَعْتوره، فصاح صيحة هائلة، ارتجت لها الأبدان في ساحة الهيجاء قائلا: أبي، أبي، ويحكم إنه أبي. ولكنّ السيفَ كان قد سبق العَذَل، فأخذ الجزع والحزن من نفس حذيفة مأخذا عظيما، يصعب احتماله، ولا يمكن تصوره.

أما من قتلوا أباه فقد اعتراهم الفزع، وتملكتهم الحيرة، وسُقطوا في أيديهم، ولم يزيدوا على قولهم: والله ما عرفناه. ثم قال لهم حذيفة بصوت متهدج تكاد تخنقه العبرات: (يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين)، ثم استمر حذيفة يقاتل حتى وضعت المعركة أوزارها، وانتهى القتال بما انتهى عليه من مصاب وبلاء.

لما علم رسول الله، بخبر قتل اليمانِ أبي حذيفة خطأ، أمر بالدية تُسلم لولده، فأخذها حذيفة وتصدق بها على المسلمين، وهو على ظنٍ حسن بأن أباه قتل شهيدا، وأنه بفضل الله وكرمه معدودٌ في الشهداء، وبصنيع حذيفة هذا ارتفع قدره، وكبر شأنه بعين رسول الله، وعرف قوة إيمانه، وكرم معدنه.

جاء يوم الخندق، اليوم الذي جمعت فيه قريش أحزابها من العرب لغزو المدينة والقضاء على المسلمين، حتى صاروا جيشا لَجِبا، فيه نحو عشرة آلاف مقاتل، ومَضَوْا إلى ما أرادوا، فحاصروا المدينة المنورة، نحو شهر بعد أن فوجئوا بالخندق أمامهم محفورا، يصدهم عن الاقتحام والهجوم، وفي تلك الظروف الشديدة، والأحوال العصيبة، التي بلغت ذروتها على المسلمين نتيجة الحصار، والاستعداد للمواجهة المحتملة في أي حين إن استطاع ذلك الجيش الكبير اجتياز الخندق، واختراق حصون المدينة، أصاب المسلمين ما أصابهم من نصب وجوع وخوف وقلق، علاوة على البرد القارس، الذي لفَّ الأجواء ببرودته الشديدة، فكان ابتلاءً عظيما، زُلزلوا به زلزالا عنيفا.

عند كل ذلك رأى رسول الله أن يرسل رجلا إلى معسكر العدو، ليجسّ له خبرهم، فبينما هو جالس مع أصحابه الكرام في ليلة ليلاءَ باردة، إذ قال:(ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة)، سكت جميع الصحابة، ولم يجبه منهم أحد، فكرر رسول الله قوله ذاك، فلم يجبه أحد، فأعاد الرسول قوله ثانية، فلم ينطق أحد بكلمة واحدة، وذلك من شدة ما كان بهم من بأساء وضراء، فوق ما تحتمل طاقتهم، وطاقة البشر عامة، ثم قال رسول الله:(قم يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم، ولا تَذْعَرهم)، فلم يجد حذيفة بدا من أن يقوم إذ دعاه الرسول باسمه، فقام متحاملا على نفسه، من فرط ما به من جهد وإعياء، ومضى في طريقه حذرا حتى أتى معسكر الأعداء، وتسلل إليه حتى صار جالسا مع بعض الأجناد، ولم يشعروا به إذ كانت الرياح القوية قد أخمدت نيرانهم، فباتوا في ظلام دامس، حينئذ أحس قائد جيش المشركين أبو سفيان بالخطر في ذلك الظلام الذي لا يكاد يعرف فيه الرجل من بجواره، وخشي من أن يتسلل في جنودهم أحد من المسلمين، فقام على شَرَفٍ محذرا الجيش بصوت جهير سمعه حذيفة:(يا معشر قريش، لينظرْ كلٌّ منكم جليسه، ولْيأخذْ بيده، وليعرف اسمه)، هنالك سارع حذيفة بسرعة بديهته، وفطنته الذكية، إلى أخذ يد الرجل الذي بجواره، وقال له: من أنت؟ فقال: فلان بن فلان. وبذلك أمن على نفسه بينهم.

وفي تلك الليلة رأى أبو سفيان ما حلّ بالجيش، ونظر فيه فإذا بالخيل والإبل قد هلكت، والريح ما انفكت عنهم مشتدّةً أياما، بحيث لا تقوم لهم نار، ولا تطمئن قِدْرٌ، ولا يستمسك لهم بناء، فقال لهم: إني مرتحل، فارحلوا، وراح يهيئ للمسير.

ما إن سمع حذيفة ذلك من أبي سفيان، ورأى حالتهم تلك، حتى انسل هاربا، ورجع إلى رسول الله فرحا مستبشرا، بنجاحه في مهمته، وفرحا أيضا بما يحمل من خبر رحيل الأعداء، فسُر النبي بالخبر، وحمد الله أن كفاهم القتال، كما سُرّ بحذيفة الذي أدى مهمته على أتم وجه، وألبسه عباءة كانت عليه يصلي بها، ونام بها حذيفة في تلك الليلة، نوما هادئا هانئا، نومَ قرير العين، وما زال نائما حتى أصبح، فقال له رسول الله ممازحا: (قم يا نَوْمان).

مساحة إعلانية