رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
نشأ والد الصحابي حذيفة بن اليمان في مكة، وكان اسمه حُسيل بن جابر العبسي، عاش بين أهل مكة كواحدٍ منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم، وظل في عيشته هذه مطمئنا آمنا، لا يكدر هناءها، ولا يعكر صفاءها شيء من شرور الأهواء، ولا صروف الأيام، حتى قُدّر لحسيل بن جابر، أن يصيب في مكة دما، جعله طِلبة للثأر الذي لا يرضى بشيء سوى سفك دمه، ولم تكن له منعة في قومه تكفيه وتذود عنه، فلم يجد حُسيل من بعدُ بدا من أن يترك مكة فارا بحياته إلى يثرب.
هناك في يثرب استقر بحسيل المقام، وحالف بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس اليمانية، القبيلة التي نزحت من قديم من اليمن، فسمي لذلك حسيل باليمان، حتى لم يعد يعرف إلا بهذا الاسم الجديد، ثم تزوج منهم، وولدت له زوجه ابنه حذيفة، الذي أصبح له في الإسلام شأن أيُّ شأنٍ، سنعلمه فيما يأتي.
شب حذيفة في يثرب، وطن أبيه الذي اختاره بديلا عن وطنه الأصلي، شب هنالك مع القوم الذين شاء القدر لهم أن يكونوا أنصاراً لرسول الله، عليه الصلاة والسلام، وأن تكون مدينتهم موطناً لدعوة الإسلام الذي شاع نوره وأضاء ما حوله، وكان للأنصار أوسهم وخزرجهم حظٌ عظيم من نوره، وفعل جليل لنصرته، في تلك المدينة سمع اليمان وابنه حذيفة، وابن آخر له اسمه صفوان، عن الإسلام، وعلموا الكثير عن دعوة ورسالة النبي الكريم محمد، عليه الصلاة والسلام، ممن دخلوا دين الله من قومهم، وقد كانوا كثيرا، فعزموا على المجيء إلى رسول الله لمبايعته، والدخول في الإسلام، وقد صح عزمهم فقدموا على الرسول الكريم، وأسلموا لله رب العالمين.
حين رأى رسول الله حذيفة، تخايل فيه علامات النجابة والفطانة، وتوسم فيه خيرا كثيرا، فأحب إكرامه فقال له:(إن شئت كنت من المهاجرين، وإن شئت كنت من الأنصار، فاختر لنفسك ما تحب)، ولأن حذيفة كان قد ولد وتربى مع الأنصار في المدينة، اختار أن يكون من الأنصار. لم تنقطع صلة اليمان بموطنه الأول مكة، دار مهده وصباه وشبابه، فكان يزورها من حين إلى آخر، بعد أن ابتعد عنها سنينَ طويلة، وفي إحدى زياراته صحبه ابنه حذيفة إلى مكة، وذلك بعد إسلامهما، وبعد هجرة الرسول إلى المدينة، فحدث أن أمسك بهما المشركون الذين كانوا متهيئين للخروج إلى قتال المسلمين قبل معركة يوم بدر، وأسروهما واشترطوا عليهما مقابل أن يطلقوهما ألا يقاتلا مع المسلمين، وأخذوا عليهم العهد بذلك، فأعطوهم العهد وانطلقا في سبيلهما حتى بلغا مشارف المدينة ولقيا الرسول فأخبراه خبرهما مع قريش، فقال لهما:(نستعين الله عليهم، ونفي بعدهم)، وبذلك لم يشهد حذيفة ولا أبوه اليمان، يوم بدر العظيم، وتلك هي أخلاق المسلمين المؤمنين، وما يمتازون به من خِلال، التي من أبرزها الصدق والوفاء بالعهد، ولو مع الأعداء، ومع من يكرهون، وما ذلك إلا من تقوى الله عز شأنه، التقوى التي حلت في قلوبهم، فجعلتها قلوبا بصيرة لا تعمى عن الحق، بل تُقر به، قلوبا بيضاءَ مملوءة بمعاني الخير والبر، بحيث تعرف المعروف، وتنكر المنكر.
ظل حذيفة بعد يوم بدر الذي لم يكتب له أن يشهده، متشوقا متطلعا إلى يوم آخرَ يُري فيه الله من نفسه تضحية وفداءً من أجل دينه الذي آمن به، وليعوض أيضا ما فاته مع إخوانه المسلمين، من عظيم الأجر الذي ظفروا به فكانوا من الفائزين، كان ذلك منه حتى بلَّغه الله يوم أحد، فخرج فيه مجاهدا في سبيل الله، جاهد في ذلك اليوم ولم يكن في حسبانه ما كان ينتظره فيه من شدة وبلاء على نفسه خاصة، وعلى المسلمين عامة، بعد أن دارت الدائرة عليهم بمخالفة من خالف أوامر رسول الله، أما ما وقع على حذيفة خاصة من بلاء وشدة وكرب، فهو أن بعض المسلمين قتلوا خطأ من غير علم أباه اليمان حين لم يعرفوه، إذ لم تكن له علامة ولا شارَة مبيِّنة في زيّه، ولم يكونوا يستطيعون تمييزه من وجهه، فقد كان متلثما في معمعة الوغى، ناهيك بمُثار النَّقْع الذي غطى الوجوه، واعتلى الرؤوس، فأضعف نظر الأبصار، فما عاين حذيفة ذلك المصاب الجلل، إلا والسيوف والرماح تنوش أباه، وتَعْتوره، فصاح صيحة هائلة، ارتجت لها الأبدان في ساحة الهيجاء قائلا: أبي، أبي، ويحكم إنه أبي. ولكنّ السيفَ كان قد سبق العَذَل، فأخذ الجزع والحزن من نفس حذيفة مأخذا عظيما، يصعب احتماله، ولا يمكن تصوره.
أما من قتلوا أباه فقد اعتراهم الفزع، وتملكتهم الحيرة، وسُقطوا في أيديهم، ولم يزيدوا على قولهم: والله ما عرفناه. ثم قال لهم حذيفة بصوت متهدج تكاد تخنقه العبرات: (يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين)، ثم استمر حذيفة يقاتل حتى وضعت المعركة أوزارها، وانتهى القتال بما انتهى عليه من مصاب وبلاء.
لما علم رسول الله، بخبر قتل اليمانِ أبي حذيفة خطأ، أمر بالدية تُسلم لولده، فأخذها حذيفة وتصدق بها على المسلمين، وهو على ظنٍ حسن بأن أباه قتل شهيدا، وأنه بفضل الله وكرمه معدودٌ في الشهداء، وبصنيع حذيفة هذا ارتفع قدره، وكبر شأنه بعين رسول الله، وعرف قوة إيمانه، وكرم معدنه.
جاء يوم الخندق، اليوم الذي جمعت فيه قريش أحزابها من العرب لغزو المدينة والقضاء على المسلمين، حتى صاروا جيشا لَجِبا، فيه نحو عشرة آلاف مقاتل، ومَضَوْا إلى ما أرادوا، فحاصروا المدينة المنورة، نحو شهر بعد أن فوجئوا بالخندق أمامهم محفورا، يصدهم عن الاقتحام والهجوم، وفي تلك الظروف الشديدة، والأحوال العصيبة، التي بلغت ذروتها على المسلمين نتيجة الحصار، والاستعداد للمواجهة المحتملة في أي حين إن استطاع ذلك الجيش الكبير اجتياز الخندق، واختراق حصون المدينة، أصاب المسلمين ما أصابهم من نصب وجوع وخوف وقلق، علاوة على البرد القارس، الذي لفَّ الأجواء ببرودته الشديدة، فكان ابتلاءً عظيما، زُلزلوا به زلزالا عنيفا.
عند كل ذلك رأى رسول الله أن يرسل رجلا إلى معسكر العدو، ليجسّ له خبرهم، فبينما هو جالس مع أصحابه الكرام في ليلة ليلاءَ باردة، إذ قال:(ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة)، سكت جميع الصحابة، ولم يجبه منهم أحد، فكرر رسول الله قوله ذاك، فلم يجبه أحد، فأعاد الرسول قوله ثانية، فلم ينطق أحد بكلمة واحدة، وذلك من شدة ما كان بهم من بأساء وضراء، فوق ما تحتمل طاقتهم، وطاقة البشر عامة، ثم قال رسول الله:(قم يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم، ولا تَذْعَرهم)، فلم يجد حذيفة بدا من أن يقوم إذ دعاه الرسول باسمه، فقام متحاملا على نفسه، من فرط ما به من جهد وإعياء، ومضى في طريقه حذرا حتى أتى معسكر الأعداء، وتسلل إليه حتى صار جالسا مع بعض الأجناد، ولم يشعروا به إذ كانت الرياح القوية قد أخمدت نيرانهم، فباتوا في ظلام دامس، حينئذ أحس قائد جيش المشركين أبو سفيان بالخطر في ذلك الظلام الذي لا يكاد يعرف فيه الرجل من بجواره، وخشي من أن يتسلل في جنودهم أحد من المسلمين، فقام على شَرَفٍ محذرا الجيش بصوت جهير سمعه حذيفة:(يا معشر قريش، لينظرْ كلٌّ منكم جليسه، ولْيأخذْ بيده، وليعرف اسمه)، هنالك سارع حذيفة بسرعة بديهته، وفطنته الذكية، إلى أخذ يد الرجل الذي بجواره، وقال له: من أنت؟ فقال: فلان بن فلان. وبذلك أمن على نفسه بينهم.
وفي تلك الليلة رأى أبو سفيان ما حلّ بالجيش، ونظر فيه فإذا بالخيل والإبل قد هلكت، والريح ما انفكت عنهم مشتدّةً أياما، بحيث لا تقوم لهم نار، ولا تطمئن قِدْرٌ، ولا يستمسك لهم بناء، فقال لهم: إني مرتحل، فارحلوا، وراح يهيئ للمسير.
ما إن سمع حذيفة ذلك من أبي سفيان، ورأى حالتهم تلك، حتى انسل هاربا، ورجع إلى رسول الله فرحا مستبشرا، بنجاحه في مهمته، وفرحا أيضا بما يحمل من خبر رحيل الأعداء، فسُر النبي بالخبر، وحمد الله أن كفاهم القتال، كما سُرّ بحذيفة الذي أدى مهمته على أتم وجه، وألبسه عباءة كانت عليه يصلي بها، ونام بها حذيفة في تلك الليلة، نوما هادئا هانئا، نومَ قرير العين، وما زال نائما حتى أصبح، فقال له رسول الله ممازحا: (قم يا نَوْمان).
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6321
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5082
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3816
| 21 أكتوبر 2025