رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
نلتقي بأرواح لم نعرفها قط ولم نميز من قبل ملامحها، ونعشق كلمات دون النظر إلى من كتبها أو ما استدعاه لأن يخطها وما يخفيه بباطنها، ونبكي مع عيون لم نبصرها، نتشارك معها الأحداث ونرسل لها النوايا الجميلة، عسى أن تخفف مشاعرنا من معاناتها وتؤنس وحدتها، ليبقى حب الروح أسمى ما عرفناه، فليس المودة والحب بقرب الأجساد لكنها بتشابه القلوب وانسجام أرواحها.
لكن هناك من يتوجس التعامل مع الأشخاص الذين لا يعرفهم، يخشى التواصل معهم لاعتقاده بأنهم قد يملكون فكرا سيئا أو نوايا خبيثة، لظنه بأنهم لا يمكنهم فهمه بالطريقة التي يتوقعها منهم فيكون خياره الأول هو الابتعاد عن كل الوجوه الجديدة خشية الإخفاق، فيستحسن البقاء وحيداً على أن يخوض تجربة معرفة أرواح جديدة، فلا تكون لديه رغبة لفهم الآخرين والنتيجة أدنى أن تضر عوض أن تفيد. ليبقى بوضعه الراكد خشية صخب الحركة التي تنازعه أو مواجهة الفكر الذي قد يتحداه، ذلك لأنه لا يستطيع الرد على الحركة بحركة أقوى، وأن يقابل عنفا بعنف أشد. وبما أن التعاملات الإنسانية تفرض عليه ما لا يستطيع من مقابلة فكر بفكر أرقى وأقوى، وهو ما هو منه فقير، فيرضخ ليتعامل مع الوجود بفكر متهيب من المجهول، يحيط ذاته بالكثير من الظنون والمخاوف التي مع مرور السنوات تحرمه بطواعية من التمرس والإتقان لفن التعاملات البشرية، فلا يملك الفراسة للتعرف على معادن البشر المستوحشة - كما يتخيل – لينتهي به المطاف بين فكّي أحدهم.
إلى أن يبلغ مرحلة يصعب عليه فيها استيعاب أن الرائعين حوله أكثر مما يتخيل فقط عليه إعطاؤهم فرصة، ليثبتوا له العكس ولكنه للأسف يتمادى في مخاوفه حتى يقع فريسة لها، فترميه الدنيا بأحضان كل أشباه ظنونه ليثبت صدقها فتتزايد شكوكه ويطول انعزاله حتى لا يواجه العار المتراكم في باطن الفكر المتخوف من الناس لتفقده العزلة إنسانيته ويتوه في واقعه المشوش.
وعلى النقيض هناك من يتشدق بين الأرواح كجيفة سارحة لا تستشعر طعنات العار ووخز الخيبات المتكرر، فلا يستهويها الفهم ولا يعنيها التفكر بمحيطها، تتخبط بين هذا وذاك دون أن تتعلم الدروس وتتقن فنون التعاملات مع الأرواح البشرية التي تعرضت للإيذاء وما نتج عنه من تفاعلات مركبة يصعب تجاوزها أو بسيطة يسهل تخطيها.
وبين ذاك وهذا، أناشدك بالاعتدال والوسطية فهي الملاذ الآمن، فإن كان فكرنا سليماً جاء نظرنا وأداؤنا سليماً وفق نسقه، وإن كان فكرنا معتلا جاء نظرنا وأداؤنا معتلا على شاكلته، من هنا تنبثق أهمية اجتناب مشوهات التفكير العضوية والنفسية التي تراكمت من تجاربنا ومخاوف المحيطين بنا، فبدونا متوجسين من كل ما يحيط بنا، وكأن العالم تمحور فينا، فما فعل ذاك هكذا إلا ليُغيظنا وما تفوهت فُلانة بتلك الكلمات إلا لتشوهنا، أما هذه فنظراتها لي مسمومة وذاك يتصيد للإيقاع بي، وهكذا دواليك تسير عجلة الحياة وهي تحتضن بين أتراسها مشاعر الريبة والخوف لتتوالد وتتكاثر بعفن الحقد والكراهية، فتخيط العناكب بيوتها معلنة الدمار الكامل لكل من يقترب من توجسها المستمر.
لذا، أعد ضبط إعداداتك الفكرية وافتح أبواب عقلك وعينيك للحياة لتتعرف على أفرادها المتمرسين والهواة، ستصادف الصالح والطالح، وستتجادل مع الذكي والمتذاكي، كما لا يمكنك أن تفوت جمال تجربة التعامل مع الغبي والمُتغابي، أو يغيب عن تجربتك الحياتية رؤية الماكر والطيب، ففي كل واحد منهم متعة وفائدة مختزنة نستنبطها لفهم خفايا الوجود والأرواح البشرية، فلن يقضموا منك قطعة ويقتسموك كقالب حلوى إن لم تسمح لهم بذلك، مهما كان طعمك حلواً فهناك أنفس لا تشتهي المذاق المُحلى ولا تنغمس فيه ليقينها بأضراره المتتابعة وخطورة مجاراته.
فالفكر هو ما نشعر به بوجودنا، ونهتدي به إلى وجود ما حولنا، قريبه وبعيده، ظاهره وباطنه، علينا أن نتوازن به لتتزن أوقاتنا وتصلح أحوالنا، بأن نتبنى الأفكار المرنة لخلق بيئة صالحة قوامها كلمة طيبة تريح القلوب وتسعد الوجوه، فليس منا من لم يتأذى، جميعنا نعاني ولكن الحياة لم تقف ولم نوصد الأبواب في وجه بعضنا البعض، بل على العكس من ذلك، كُلما تفهمنا الآخرين بادلونا الفهم وكلما تقبلناهم بكل ما نراه فيهم من قصور قابلوا نواقصنا بالرضا والقبول.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6360
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5103
| 20 أكتوبر 2025
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
4605
| 27 أكتوبر 2025