رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قبل أسابيع رحل رجل عظيم، رجل وهب حياته لمكافحة الظلم والعنصرية والاستغلال فأحبته شعوب العالم في الشمال والجنوب في الشرق والغرب، كل الأجناس والأعراق والديانات وحضر ما يقارب المائة رئيس دولة وحكومة إلى جنوب إفريقيا لتوديعه احتراما لما قدمه للشعب الجنوب الإفريقي وللعالم بأسره، من دروس في الصبر والقيم الإنسانية السمحاء من تسامح ومحبة وعدالة واحترام للآخر.
نيلسون مانديلا حبيب الشعوب المضطهدة لم يقتل أحدا ولم يؤذ أحدا بل أحب الجميع بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهم ودياناتهم ومعتقداتهم، بالابتسامة والأحضان والتواضع. أحبه الرجل الأبيض قبل الأسود وأحبه الجميع لأن مانديلا كان يحب الجميع، كان يحب السلام والفقراء والمساكين وكان ينبذ الظلم والاستغلال والعنصرية والتمييز بين دول وشعوب العالم.
في المقابل، مات مؤخرا رجل عندما يذكر اسمه يذكر الإرهاب والقتل والبطش والمجازر والاستيطان والاستغلال والعنصرية.. رجل أحب إيذاء الآخر واستعمار الآخر وقتل واضطهاد الآخر.
ثماني سنوات في غيبوبة وبعدها موت لرجل ترك وراءه مجزرة صبرا وشاتيلا وإرهاب دولة مقننا ضد أطفال فلسطينيين أبرياء، عزل، لا حول ولا قوة هم.
هنا يتجسد الفرق بين الخير والشر، الاختلاف الكبير بين عظماء التاريخ وسفلائه.
جاءت وفاة مجرم الحرب آرييل شارون، بعد أن دخل في واحدة من أطول حالات الغيبوبة، حيث دامت ثماني سنوات، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "آرييل شارون" أحد أبرز المسؤولين الإسرائيليين وأكثرهم إثارة للجدل، قضى حياته في التنقل بين الجيش والسياسة، وترك وراءه إرثاً من الجرائم لم يبلغه أحد في التاريخ.
"آرييل شارون" أصيب بسكتة دماغية تسببت في دخوله في غيبوبة استمرت 8 سنوات – منذ الرابع من جانفي عام 2006 حتى وفاته السبت 11/01/2014 – اتُهم بالمسؤولية عن جرائم عديدة منها مجزرة "قبية" 1953، وقتل وتعذيب الأسرى المصريين 1967، واجتياح "بيروت" ومجزرتا "صبرا" و "شاتيلا" واستفزاز مشاعر المسلمين باقتحامه للمسجد الأقصى سنة 2000، وكذلك مذبحة مخيم "جنين" 2002، والكثير من الاغتيالات ضد أفراد المقاومة الفلسطينية وعلى رأسهم الشيخ المجاهد "أحمد ياسين".
لم يكن تعيين شارون على رأس الدبلوماسية الإسرائيلية مفاجأة أو أمرا غريبا على الأوساط السياسية المهتمة بشؤون وشجون الكيان الصهيوني ودولة فلسطين.. فنتانياهو مهّد للموضوع وكشف عن عدة مؤشرات كانت ترشح المتشدد والمتطرف والعنيد شارون لرئاسة الدبلوماسية الإسرائيلية.. تعيين شارون جاء في وقت كان رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بحاجة لمن يقف إلى جانبه في مواجهة المعارضة الداخلية والرأي العام المحلي والدولي للتلاعب ببنود اتفاقية أوسلو خاصة وأن موعد مايو 1999م على الأبواب لتطبيق ما اتفق عليه.
شارون عارض اتفاقية أوسلو جملة وتفصيلا وهو الذي جزم قاطعا أنه لا يصافح ياسر عرفات وهو الذي تفنّن في صبرا وشاتيلا في قتل آلاف المدنيين العزل الأبرياء، وهو الذي لعب دورا إستراتيجيا في بناء العديد من المستوطنات ونهب الكثير من أراضي الفلاحين الفلسطينيين الأبرياء.
جاء تعيين شارون على رأس الخارجية الإسرائيلية في إطار إستراتيجية نتانياهو للخروج من بنود اتفاقية أوسلو وللتخلص من المعارضة الداخلية التي ترفض طريقة نتانياهو في تسيير شؤون الكيان الإسرائيلي والتي تريد الإطاحة بحكومته في أقرب الآجال.
فحضور شارون قمة "واي بلانتيشن" كان على حساب عملية السلام وعلى حساب مفاوضات جادة وعملية، هدف نتانياهو هو دفع أقل وأرخص ثمن ممكن مقابل السلام في الشرق الأوسط.. وهنا بطبيعة الحال يلتقي كل من نتانياهو وشارون في الإستراتيجية والهدف. حيث إن نتانياهو كان يحاول دائما وأبدا إعادة قراءة وكتابة بنود اتفاقية أوسلو حيث كان يؤكد دائما على أن الاتفاقية تضر بأمن ومصالح إسرائيل..
ومن جهته، انتقد شارون مرارا وتكرارا ومنذ 1993م اتفاقية أوسلو.. شارون - والذي يمكن أن يلقب بالمقاييس المعترف بها دوليا أنه مجرم حرب - وصف اتفاقية أوسلو بـــ "الخطأ الكبير، الخطأ الأخلاقي، والخطأ العملي".. وبهذا إذن، فإن تعيين شارون على رأس خارجية إسرائيل لم يتم بهدف دفع عملية السلام إلى الأمام ولا بهدف تطبيق بنود اتفاقية أوسلو ولا من أجل تحقيق السلام الذي يرضي جميع الأطراف في الشرق الأوسط.
وبعد خمس عشرة سنة في الخفاء وفي الظل رجع شارون إلى الواجهة والمجد، ورجع بقوة لأنه يتفق مع مسؤوله المباشر نتانياهو في الإستراتيجية وفي الأهداف.. فبعد أن أُبعد سنة 1983 من منصب وزير الدفاع بسبب وحشية أعماله ولمسؤوليته الكبيرة في مجزرة صبرا وشاتيلا يعود شارون ويؤكد أنه يعمل جاهدا على مساعدة "إنجاح سياسة إسرائيل من أجل السلام كما يعمل على الحفاظ على المصالح الأمنية والوطنية لإسرائيل"، وهذا يعني عدم التنازل عن شبر واحد من الأراضي المغتصبة ومن المستوطنات التي سُلبت وسُرقت من عشرات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء.
شارون العدو اللدود للعرب ولكل ما هو فلسطيني عرف بمواقفه اليمينية المتطرفة ورفضه المطلق للانسحاب من 13 في المائة من الضفة الغربية، شارون تم تعيينه ليعزز المواقف المتطرفة من عملية السلام وليكون درعا واقيا لنتانياهو لمواجهة تهديدات اليمين المتطرف للإطاحة بحكومته وكذلك لضمان الانضباط داخل الليكود.
وهكذا، وأمام غطرسة شارون ظهر نتانياهو أمام الرأي العام المحلي والعالمي إنسانا متوازنا ومعتدلا.
شارون عبر تاريخه الحافل بالمجازر والمذابح والمواقف العدوانية من كل ما هو فلسطيني وعربي، أصر طوال حياته على الاستمرار في مشروع تهويد فلسطين ومسح إلى الأبد الهوية الفلسطينية من كل ما تحمله من تاريخ وحضارة وتقاليد وعادات، كما شملت خطة شارون شطب فلسطين من الخارطة الجغرافية..
شارك السفاح في معركة "القدس" ضد الجيش الأردني ووقع أسيراً في معارك "اللطرون" عام 1948، وقد أسره يومها النقيب "حابس المجالي" – المشير فيما بعد..
في الخمسينيات تولى قيادة مجموعة من القوات الخاصة أطلق عليها "الوحدة 101"، كان هدفها شن هجمات انتقامية للرد على العمليات التي يقوم بها الفدائيون الفلسطينيون عبر الحدود، إلا أن وحدة "شارون" العسكرية أثارت الجدل بعد مذبحة "قبية" في خريف 1953، والتي راح ضحيتها 170 من المدنيين الأردنيين، وقام بمجزرة بشعة في "اللد" عام 1948 استشهد على أثرها 426 فلسطينياً بعد أن اعتقلهم داخل المساجد.. وشارك "شارون" في كل الحروب التي خاضتها إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948، وبرز كمخطط إستراتيجي، وقاد كتيبة مظليين في حرب "السويس" عام 1956 وترقى إلى رتبة جنرال، وفي حرب جوان 1967 تولى "شارون" قيادة قطاع في "سيناء"، ولعب دوراً هاماً في احتلالها، وبعد ست سنوات قامت مصر وسوريا بحرب أكتوبر عام 1973 لتحرير "سيناء" و "الجولان" المحتل، وقاد "شارون" فرقة إسرائيلية لفتح الثغرة التي تسببت بمحاصرة الجيش الثالث في "سيناء".
فكم هو الفرق كبير بين شخص وهب حياته للحب والسلم والأمن والأمان وشخص ارتبطت حياته بالدماء والمجازر والقتل والتعذيب والإرهاب.
زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
الهوينا كان يمشي، هنا فوق رمشي، اقتلوه بهدوءٍ، وأنا أهديه نعشي...... صدق القائل ومِنَ الحُبِ ما قَتل، هذا... اقرأ المزيد
27
| 31 أكتوبر 2025
بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
تُعتبر الأسرة الخلية الأولى في المجتمع وأحد أهم العوامل المؤثرة في بناء شخصية الطفل، حيث تُسهم في تكوين... اقرأ المزيد
33
| 31 أكتوبر 2025
الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
ظهرت للأسف من قبل أخصائيين غير مدربين على كفاءة وضمير مهني التجارة بمسمى العلاج وعدم الإدراك والفهم والوعي... اقرأ المزيد
9
| 31 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6621
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6483
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2646
| 28 أكتوبر 2025