رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في عالمٍ لا يفهم إلا لغة المصالح، يمكن لكل سياسةٍ أن تتغير، ويمكن لكل قرارٍ أن يتبدل إذا كانت المصلحة تقتضي حصول ذلك. ولكن من الممكن أيضاً حصول كل ما نتصور أنه مستحيل حين تغيب تلك المصلحة، أو حين يكون في حصوله شبهة مصلحة، بناء على حساباتٍ خاطئة أو مغلوطة..
لم يكن الشعب السوري بحاجةٍ لـ (مهزلة الضربة)، وهما كلمتان تكفيان للتعبير عن كل الدلالات المتعلقة بالموضوع، لكي تتأكد قناعتهُ بكل ما آمن به من قبل فيما يتعلق بموقف النظام الدولي الحقيقي منه ومن ثورته. وهو في جميع الأحوال يبدو سائراً في طريق الآلام لتحقيق هدفٍ واحد لم تعد، منذ زمن، ثمة إمكانية ليكون له بديل. وقد يكون عدم حصول الضربة سبباً لاستعادته زمام المبادرة.
لكن مسرحية (الضربة) بكل تطوراتها ونتائجها ومآلاتها البعيدة تفرض على القوى الإقليمية ذات العلاقة أن تُعيد قراءة المشهد، وأن تبني حساباتها على المعطيات الجديدة التي أفرزها، وهي مُعطياتٌ في غاية الحساسية والخطورة، وتُرسل رسائل تتعلق بمصير المنطقة بأسرها على مستوى إعادة رسم الخرائط.
فبغضﱢ النظر عن كل الكلام المُنمق والشعارات النظرية عن التحالف الإستراتيجي والشراكات طويلة المدى والصداقات التاريخية، تُظهر التطورات أن أمريكا وأوروبا على استعداد كامل لإهدار المصالح الإستراتيجية لبعض القوى الأساسية في المنطقة، بوقاحةٍ تكاد لا تعرف الحدود، حتى لو كانت هذه المصالح تصل إلى أن تتعلق أحياناً بالوجود نفسه، وليس أقلﱠ من ذلك..
وفي هذا الإطار، يتم تجاهلُ كل الالتزامات، بل والتضحيات، السياسية والاقتصادية التي قدﱠمتها هذه الدول على مدى عقود. وقد قدﱠمتها انسجاماً أولاً مع أعراف العلاقات الدولية التي تَحكمُ منظومة المصالح المُشتركة للدول، ثم انطلاقاً من الحرص على القيام بما يمكن لتأكيد مقومات السلم والاستقرار في المنطقة..
من المُعيب ابتداءً ادعاءُ التجاهل لما بات يعرفه الصغير والكبير في منطقتنا عن معاني ودلالات الدخول مع النظام السوري في نفق المناورات الطويل المتعلق بالأسلحة الكيميائية. وبإشرافٍ وتنسيق روسي إيراني.
لا نتحدث هنا عن المعاني الأخلاقية التي ربما يكون خيرُ من وصفها، وبعاميةٍ مُعبرة، مثقفٌ سوريٌ قد يكون اليوم أكثرَ من يمكن توصيفه بأنه ليبرالي ومُعتدل وعقلاني، من أهل سوريا، هو ياسين الحاج صالح، حين قال: "في شي حقير جدا بهالعالم الوسخ. صارت كل القصة قصة سلاح ما، مو قصة مجرم يستخدم هالسلاح وغيرو. كل الحكي صار عالساطور، مو عالمجرم الحامل الساطور، ولا عالدم اللي عالساطور، ولا عالناس اللي قتلهم المجرم بالساطور، ولا عالعدد الأكبر اللي قتلهم بالمسدس والمدفع... وصار مصير الساطور هو موضوع البحث العالمي، مو مصير المقتولين ولا مصير القاتل. عالم مفلوج بضميرو".
لا. لا نتحدثُ عن معاني ما جرى من حيث انهيار المنظومة الأخلاقية الدولية التي تسمح باستمرار أبشع مجزرةٍ في العصر الحديث أمام بصر العالم بأسره، شعوباً وحكومات. فهذا حديثٌ لم يعد من ورائه طائل، وإن كنا نؤمن بأن تلك الممارسة سترتدﱡ على كثيرين في العالم المذكور لعنةً بشكلٍ من الأشكال، تبعاً لقوانين وسُنن الاجتماع البشري، وبعيداً عن التفكير الرغائبي. لكن لهذا الحديث مقاماً آخر.
وإنما الحديثُ هنا عن حساباتٍ سياسيةٍ تسمح بحدوث خلخلةٍ كُبرى في موازين القوى الإقليمية، اختصرها الناشط السوري نجاتي طيارة حين قال، إنها تعني: "ببساطة، انفلات حلف النظام الإيراني الروسي من أي عقال، واستشراسه لا في سوريا وحسب، فلم يعد هناك أفظع مما ارتكبه فيها حتى اليوم، بل انفلاته في المنطقة العربية والعالم أيضاً، وهذا هو السبب الحقيقي لمشروع الضربة. إنه يعني موت القانون الدولي وخطوطه الحمراء كلها، ليس على استخدام السلاح الكيماوي فقط، بل على كل تدخل وانفلات آخر، لتجارة السلاح الروسية وعملائها، ولدولة ولي الفقيه وتعصبها الشيعي الفارسي أولاً وأخيراً أيضاً".
ليس مهماً في هذا الإطار أن تكون تلك الحسابات مقصودةً أو نتيجة غباءٍ في الرؤية دفعت المنطقةُ، ومعها العالم، ثمنهُ أكثر من مرة في العقود الأخيرة. فالنتيجة في نهاية المطاف واحدة، ولا يمكن للدول صاحبة العلاقة أن تقف أمام هذا الموضوع موقف المُتفرج، لأنه أصبح موضوع مصيرٍ ووجود، وليس هزة سياسية عابرة.
"لسان الحال أبلغُ من لسان المقال" كما قالت العربُ دوماً. والرسائل التي تُطلقها المهزلة الأخيرة في المشهد السوري تقول لكل أصحاب العلاقة: "ما حكﱠ جِلدكَ مثل ظفرك فتولﱠ أنت جميع أمرك"، أي "اقلعوا أشواككم بأظافركم". لا يُقالُ هذا للسوريين فقط، وإنما أيضاً لقوى إقليمية يُعرف أنها ستتضرر من تلك المهزلة بشكلٍ استثنائي. وحين يصبح الأمر أمرَ وجودٍ وبقاء يُصبح ممكناً، بل مطلوباً، تأجيلُ البحث في كل شيءٍ آخر في هذه المرحلة، والاتفاق جدياً على اقتلاع الشوك بقوة، مرةً واحدة وإلى الأبد.
لكن الموضوع قد يحمل في طياته (مناورةً) ربما يجب الانتباهُ إليها، وتتمثل في أن صانع القرار في أوروبا وأمريكا يُدرك تماماً مصالحه الإستراتيجية مع القوى ذات العلاقة في المنطقة، لكنه يُمارس ما يُشبه لعبة (البوكر) سياسياً حين يُحاول الضغط عليها من خلال (الإيحاء) بإمكانية استغنائه عنها، وباستخدام مثل هذه الصفقات المحسوبة. ومفصلُ الطريق في المسألة يكمن في أن تُسارع هذه القوى تحديداً إلى إظهار جدﱢيتها في الدفاع عن مصالحها بكل ما فيها من حسمٍ ووضوحٍ وقوة، وبعيداً عن أي تردد، حفاظاً أولاً على (هيبةٍ) لا يمكن التفريط بها والتقليل من أهميتها البالغة في جملة الحسابات السياسية، ثم تأكيداً لجاهزيتها العملية في التعامل مع مدخل (كسر العظم) الذي تحاول إيران خصوصاً التركيز عليه.
وفي مثل هذه الحالة فقط، تعود أوروبا وأمريكا للاعتراف، ليس فقط بمصالحها الإستراتيجية الحقيقية في المنطقة، بل وبضرورة العمل بمقتضيات مصالحها المشتركة مع دولها، بعيداً عن منطق المناورات.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6528
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6405
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3900
| 21 أكتوبر 2025