رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
دللت غالب التصريحات الصادرة عن مختلف المنتجين عدم الحاجة لقمة أو مؤتمر طارئ، والمهم في أي تجمع هو الوصول إلى نتائج وإجراءات فعلية تنتهي بتنظيم سحب الفائض وإعادة التوازن للسوق وتحقيق دعم اتجاه تعافي الأسعار.
جاءت تصريحات وزير الطاقة الروسي بأن السوق النفطية تشهد توازنا مع انخفاض النفط الصخري الأمريكي، وقد ارتفع عدد التوقعات التي ترى أن بوادر للتوازن متحققة في النصف الثاني خصوصاً في الربع الأخير من عام ٢٠١٦.
ارتفع الطلب على النفط خلال عام ٢٠١٤ بــ ٧٠٠ ألف برميل يوميا، بينما ارتفع المعروض من خارج الأوبك بــ ٢.١ مليون برميل يومياً، وانخفض إنتاج الأوبك بــ ٥٠٠ ألف برميل يومياً، وجاء مستوى المخزون العالمي مرتفعاً بــ ٧٠٠ ألف برميل يومياً مصدره البلدان المنتجة للنفط من خارج الأوبك، وكانت النتيجة الفعلية هي متوسط أسعار نفط خام برنت عند 99 دولارا للبرميل، وجاءت الفروقات ما بين نفطي خام برنت والأمريكي عند 6 دولارات للبرميل، والفروقات ما بين نفطي خام برنت ودبي عند 2 دولار للبرميل.
وهذه الأجواء للشركات النفطية على اختلافها لانتهاج سياسات مفادها تقليص الاستثمارات وتقليص التكاليف للإنتاج والمصاريف لرفع الإيرادات والتعايش مع ضعف الأسعار والمحافظة على عوائد المستثمرين.
هذه الصورة تغيرت كثيراً خلال عام ٢٠١٥ ، فقد ارتفع الطلب العالمي على النفط ليصل إلى ١.٨ مليون برميل يوميا وقد أسهم ضعف أسعار النفط والجازولين في الدعم الاستهلاكي وكذلك لبناء المخزون الإستراتيجي خصوصا في الأسواق الواعدة، يقيد ضعف الأسعار في المعروض من خارج الأوبك ليكون فقط ١.٢ مليون برميل يومياً، بينما يتعافى إنتاج الأوبك ويرتفع بــ ٨٠٠ ألف برميل يومياً ليصل ارتفاع في إمدادات النفط في أسواق العالم بإجمالي ٢.١ مليون برميل يومياً وهو ما يعني بناء في المخزون النفطي العالم بــ ١.٤ مليون برميل يومياً وجاء تأثيره على متوسط أسعار نفط خام الإشارة برنت عند 55 دولارا للبرميل حتى منتصف شهر سبتمبر 2015 ، وجاءت الفروقات ما بين برنت والأمريكي عند 4 دولارات للبرميل، والفروقات ما بين برنت ودبي عند أقل من دولار للبرميل.
وقد استمرت سياسات الشركات النفطية التقشفية وجاء التأثير على النفط الصخري في النصف الثاني بالرغم من قدرته على التأقلم مع مستويات أقل للأسعار
ترسم صورة أكثر إشراقا لعام ٢٠١٦ ، حيث يستمر تنامي الطلب على النفط عند مستوى حول ١.٧ مليون برميل يوميا، التوقعات الحالية مشفوعاً بتعاف بوتيرة أقل للاقتصاد العالمي وإن كانت هناك مخاوف حقيقية حول أداء الاقتصاد الصيني، لا يشهد النفط من خارج الأوبك أي زيادة خلال العام متأثراً بضعف الأسعار والسياسات التقشفية، بينما يرتفع إنتاج الأوبك بــ ٦٠٠ ألف برميل يومياً، مما أسهم في توازن السوق النفطية خصوصا خلال النصف الثاني من عام ٢٠١٦ حيث تشهد السوق النفطية سحوبات فعلية من المخزون للإيفاء باحتياجات الطلب وبالتالي تعاف نسبي في أسعار النفط ، بافتراض أن مبيعات إيران من النفط الخام ترتفع من ١.١ مليون برميل يوميا في عام ٢٠١٥ إلى ١.٥ مليون برميل يوميا في عام ٢٠١٦ بالإضافة لثبات إنتاج ليبيا من النفط حول ٤٠٠ ألف برميل يومياً..
وعموماً، فإن السوق ينتظر عودة النفط الإيراني للسوق للتأكد من قدرة إيران على الإنتاج وتدور التوقعات الحالية أن النفط الإيراني يعود للسوق إما في شهر أبريل ٢٠١٦ أو شهر أكتوبر ٢٠١٦ وأن يبدأ عند مستويات لن تزيد عن ٤٠٠ ألف برميل في أحسن الأحوال ثم يرتفع للضعف خلال أشهر قد تزيد إلى ١٢ شهرا وهو أمر مرتبط أيضا بسرعة عوده الشركات النفطية لتطوير قطاع الاستكشاف والتنقيب والإنتاج الإيراني ويبدو أن مؤتمرا يتم الإعداد له من قبل شركة سي دبليو سي خلال النصف الأول من ديسمبر في لندن ويشارك فيه عدد كبير من المختصين والسياسة في إيران يَصْب في هذا، كما أنه بالرغم من فشل الجمهوريين في إخفاق الاتفاق مع إيران والفرصة مازالت منتظرة إلى ١٧ سبتمبر ٢٠١٥ إلا أن الأمريكان يدرسون خيارات استمرار العقوبات المالية على الشركات التي نتعامل مع إيران وكذلك منع التعامل مع الشركات الإيرانية التي للحرس الثوري الإيراني إسهامات أو نشاط أو استفادة مالية منها وذلك في إطار التقييد على سجل إيران في حقوق الإنسان ودورها في المنطقة كما نقلت جريدة هيرالد تريبيون إنترناشونال.
وقد أعلن الوزير الإيراني أن إنتاج بلاده سيرتفع بــ ٥٠٠ ألف برميل يوميا فور رفع العقوبات الدولية ثم إضافة مليون برميل يوميا جديدة خلال ١٢ شهراً، وتعتقد وكالة الطاقة الدولية أن إنتاج إيران سيرتفع ليصل خلال ٦ أشهر من رفع العقوبات الدولية إلى ٣.٤ -٣.٦ مليون برميل يوميا.
هناك عدد من العوامل التي تؤثر في اتجاه السوق ومنها الأوضاع الاقتصادية في العالم، وخصوصا الصين وتأثير ذلك على الأسواق الأخرى ومستوى الطلب على النفط، كذلك استمرار انخفاض المعروض من خارج الأوبك، واستمرار تأثر الإنتاج سلباً في عدد من بلدان الأوبك، كذلك افتراضات تأخر عودة النفط الإيراني للسوق النفطية، ودلائل توازن السوق تكون بتحول في هيكلة أسعار النفط من الكونتانغو إلى الباكور يشين وهو ما يعبر عن تحول باتجاه ارتفاع الحالية مقارنة بالمستقبل حسب منحنى الأسعار في المستقبل.
وهذا يدعم تأرجح أسعار نفط خام برنت ما بين ٤٥ -٥٥ دولارا للبرميل خلال عام ٢٠١٦، حسب أوضاع أساسيات السوق التي ستظهر في حينه.
وعموماً، فإن الضغوط على أسعار النفط تأتي من عدة أمور:
(1) استمرار أوبك الإنتاج عند مستويات عالية مع عودة إيران للإنتاج.
(٢) نجاح إنتاج النفط الأمريكي والإنتاج من خارج الأوبك من الصين وروسيا وبحر الشمال في الزيادة رغم ضعف أسعار النفط (٣) تحقيق تحسين في تقليل تكاليف الإنتاج ورفع إنتاجية الحفر يدعم النفط الصخري.
وفي هذا السياق، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يرتفع الطلب العالمي على النفط من ٨٠٠ ألف برميل يوميا في عام ٢٠١٤، ثم ١.٧ مليون برميل يوميا في عام ٢٠١٥، ثم ١.٤ مليون برميل يومياً في عام ٢٠١٦.
كما تتوقع أن يشهد الإمدادات من خارج الأوبك تطورا كبيرا لينخفض معدل الزيادة من ٢.٤ مليون برميل يوميا في عام ٢٠١٤، إلى ١.١ مليون برميل يومياً في عام ٢٠١٥ ثم ينخفض إجمالي الإنتاج فعليا بــ ٥٠٠ ألف برميل يوميا خلال عام ٢٠١٦.
وهذا يعني ارتفاع الطلب على نفط الأوبك من ٢٩.٧ مليون برميل يومياً خلال عام ٢٠١٥ إلى ٣١.٣ مليون برميل يوميا خلال عام ٢٠١٦ أو زيادة مقدارها ١.٦ مليون برميل، ولكن لوضع الأمور في نصابها فإن إنتاج أوبك حاليا هو ٣١.٦ مليون برميل يوميا حسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية ومن دون دخول النفط الإيراني للسوق واستمرار تعطل غالبية إنتاج النفط الليبي هناك.
ويقدر التقرير استمرار ارتفاع المخزون النفطي وأنه يغطي في البلدان الصناعية ٦٣ يوما من الطلب المستقبلي مع نهاية الربع الثاني وهو ما يعني ٥ أيام أعلى مما كان عليه في نهاية الربع الثاني من عام ٢٠١٤.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6435
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6390
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3840
| 21 أكتوبر 2025