رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد المحمدي

مساحة إعلانية

مقالات

276

د. أحمد المحمدي

الفساد الأخلاقي وانهيار العمران.. تفسير قرآني لسقوط الحضارات

28 أكتوبر 2025 , 03:05ص

 ‏‏{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}

‏تفتتح هذه الآية المشهد الكوني ببيان شامل يربط بين فساد الإنسان وخراب العمران، بين انحراف السلوك واضطراب النظام.

‏فالفساد في البر والبحر ليس حادثًا عارضًا، بل أثرٌ من آثار ما كسبت أيدي الناس؛ فسادٌ في النية والسلوك، يتجلى في فساد العمران والبيئة والعلاقات.

‏وكأن الآية تقول: إن الكون يضطرب حين تختلّ فطرة الإنسان، لأن هذا الإنسان جزء من نظامٍ متكاملٍ يسير وفق سنن الله، القائل: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} 

‏فالأرض أصلحها الله بنواميسه الكونية، وبهدايته التشريعية، فكل خروج عن منهجه فساد في نظام الكون. 

‏والفساد هنا لا يقتصر على المعاصي الفردية، بل يشمل كل إخلال بالعدالة، وكل عبث بالحق، وكل عدوان على فطرة الله التي فطر الناس عليها.

‏- قوم لوط — فساد الفطرة وخراب العمران:

‏من أبرز صور الفساد التي ذكرها القرآن فساد الفطرة الجنسية، حين يُبدّل الناس سنن الله في الخلق، فيجعلون الشهوة في غير موضعها. قال تعالى: ‏{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}.

‏لقد كان فساد قوم لوط انحرافا عن سنن الفطرة، وتمردا على ناموس الخلق، إذ استبدلوا الحياء بالشهوة، والطهرَ بالفجور، فاستحقّوا أن يُقلب عمرانُهم رأسًا على عقب، 

‏{جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} ‏ففساد الفطرة يؤدي بالضرورة إلى فساد العمران، فحين ينتكس الإنسان، تنتكس المدينة معه.

‏-قوم شعيب — فساد الكيل والميزان:

‏ومن صور الفساد الحضاري الذي يربط بين الاقتصاد والأخلاق، ما قصّه القرآن عن قوم شعيب عليه السلام {أوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 

‏لقد كان فسادهم في الظاهر اقتصاديًا، لكنه في الجوهر خللٌ أخلاقيٌّ في الضمير، إذ تحوّل التعامل التجاري إلى ميدان للغشّ والطمع، فضاعت الأمانة، وساد الجشع، فكان الهلاك الطبيعي نتيجة لهذا الخلل الأخلاقي: ‏{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. 

‏-قوم عاد وثمود — فساد القوة واستعلاء المادة: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} 

‏لقد بنوا القصور، ونحتوا الجبال، وأقاموا أعمدة الحضارة المادية، لكنهم حين طغوا بالقوة وتكبّروا على الحق، دمّر الله عمرانهم:

‏{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 

‏وكذلك ثمود الذين قال فيهم سبحانه:

‏{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} ‏فقد جمعوا بين الترف المادي والإسراف الأخلاقي، فكانت النتيجة: {فَأَخَذَتهُمُ ٱلصَّيحَةُ مُصبِحِينَ}.

‏وهنا يظهر بجلاء أن الحضارة يهلكها فساد الإنسان حين يستبدل شكر النعمة بالغرور بها، ويسخِّر القوة للبطش والغرور بدل أن يسخّرها للعدل الذي هو أساس الملك

‏-سنة المترفين في إهلاك العمران:

‏{وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} 

‏الطبقة المترفة حين تُبدّد النعمة بالفسق، وتُزيّن الانحلال باسم الحرية، فيتبعها الناس، فتفسد القيم، وينهار العمران.

‏وهكذا يقرر القرآن أن العلاقة بين الفساد الأخلاقي والخراب العمراني علاقة سببية حتمية، تُدار في فلك السنن الإلهية التي لا تحابي أحدًا.

‏فكما أن صلاح الإنسان يعمر الأرض، فإن انحرافه يدمّرها.

مساحة إعلانية