رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يبدو المشهد الإعلامي التونسي، في حالة إرباك غير مسبوق، ليس احتجاب سبعة صحف عن الصدور في إحدى الأيام القليلة الماضية، سوى تمظهر من تمظهرات أزمة خانقة يمر بها هذا المشهد منذ عقود، وازداد استفحالا بعد ثورة 14 يناير 2011.
ولعل الصحافة الورقية، هي الركن الأشدّ حرجا في النسيج الإعلامي الراهن بمختلف تعبيراته، المرئية والمسموعة والمكتوبة.
إشكاليات قديمة جديدة
كانت مشكلات الساحة الإعلامية في العهد القديم، تتلخص في الإشهار المشروط بالولاء للسلطة، وتمويلات منعدمة إلا من مبيعات، بالكاد تغطي نفقات الرواتب والطبع واللوجستيك الفني، وحريات مقموعة، جعلت الصحف نسخا مطابقة لبعضها البعض، حتى أنه بإمكان المرء مطالعة صحيفة، تغنيه عن قراءة أو حتى تصفح بقية العناوين، كما كان يتندّر بذلك الصحفيون والمراقبون.
عرفت الساحة الإعلامية التونسية بعد الثورة، بروز نحو 300 عنوان صحفي جديد، بين يوميات وأسبوعيات، فيما يشبه الانفجار الكبير الذي كانت تحتاجه النخبة والإعلاميون والرأي العام، في ظل ثورة عارمة بدت مصدر إلهام لشعوب المنطقة وطبقتها السياسية المتنوعة.
غير أن هذه المؤسسات الإعلامية الجديدة، سرعان ما تحولت إلى أحد مكونات الأزمة، خصوصا بعد أن أغلقت عشرات المؤسسات أبوابها، واضطرت صحف عديدة للاحتجاب القسري، وتراجعت مبيعات العديد من الصحف العريقة تاريخيا، على غرار جريدة "الصباح"، اليومية الأولى المستقلة في تونس، و"لابريس"، اليومية الناطقة باللغة الفرنسية (حكومية)، و"الشروق" اليومية الأكثر انتشارا في البلاد، فيما انسحبت مؤسسات أخرى بسبب وصولها إلى مرحلة الإفلاس، وفي القلب غصّة، بعد أن ضاع حلم، وذهبت استثمارات أدراج الرياح.
أسباب حقيقية
والحقيقة، أن أسباب هذه الأزمة قديمة وموروثة من خمسة عقود من البغي السياسي والإعلامي، فليست مسائل الإشهار والدعم والتوزيع وتراجع المبيعات وغيرها جديدة على المؤسسات والنقابات، فكل التقارير الصادرة خلال العشرية التي سبقت الثورة، كانت تشير إلى هذه الإشكاليات بالبنان.. وكان الجميع يربط حلّها بتوفر الحرية والديمقراطية.
لكن المفارقة العجيبة، أنه عندما توفرت الحريات بعد الثورة، واتخذ التداول السلمي على السلطة طريقه كأحد تعبيرات السياق الديمقراطي الجديد، لم تستفد المؤسسات الإعلامية من هذا المناخ الوليد، بل راكمت مشكلات جديدة إضافية.
فما الذي حصل تحديدا؟
ثمة عدة مؤشرات قد تساعدنا على فهم ما يجري في ربوع الإعلام التونسي:
** تدفق المال السياسي والإعلامي بكيفية ضخمة، ما جعل إنشاء مؤسسة إعلامية، أيسر من كتابة مقال.
** الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها "الترويكا" السابقة في الحكم، في علاقة بالإعلام، فهما وتقديرا وتصوّرا، وعلى المستوى العلائقي والمؤسساتي والقانوني أيضا.. فلم يكن لديها تصور لمشهد إعلامي جديد.. هكذا ضاعت فرصة حقيقية وسط تخبط الحكومة وترددها، وارتجاف أفكارها قبل أيديها..
** استفحال فيروس "الأدلجة" و"التسيّس المتحزّب" صلب الإعلام بما كرّس اصطفافات حزبية، أثرت على ثقة المتلقين، وهزّت صورة الإعلاميين والمؤسسات والمنابر الصحافية.
** التحالف الموضوعي لقوى المال وبارونات الإعلام القديم والدولة العميقة، رهن الإعلام لأجندات وحسابات استثمرت في انتهاك مصداقيته، وتآكل ثقة الرأي العام فيه.
** تمحورت نضالات النقابات ومنظمات المجتمع المدني، حول مطلب حرية التعبير، وتركت الإعلام يتخبط في مشكلاته وأزماته، ولم يفلح شعار الحرية وحده، في إيقاف "الماكينة" التي كانت تطحن المؤسسات من داخلها، ونعني هنا الجوانب الهيكلية والمالية والمهنية للبيوت الإعلامية التي لا تزال أوهن من بيت العنكبوت.
** وحتى عندما أغلقت مؤسسات إعلامية بسبب عدم قدرتها على مجابهة وضع مالي صعب ومعقّد، لم يطرح السؤال حول الأسباب، ولم تبحث النقابات أو المجتمع المدني، كيفية معالجة الوضع، كان كل طرف "يداعب لحيته" كما يقال، ولم يدركوا بأن شظايا الأزمة ستطال الجميع.
** إن القوانين المنظمة للحياة الإعلامية لم تتغيّر، والنصوص (المراسيم) الجديدة التي أعقبت الثورة، كانت باهتة ولا تعبّر عن مقتضيات المرحلة وسياقاتها، لأن من كتبها، كانوا من "سدنة المعبد" وحرّاسه، وبالتالي لا يمكن أن يصوغوا بديلا أو رؤية جديدة.
إن الإعلام في تونس، يحتاج إلى قوانين جديدة، ومناخات عمل مهنية واضحة، وهياكل نقابية قوية بتضامن المنتسبين إليها من دون أي إقصاء، والأدوات الأساسية لهذه المعركة، هي المصداقية والثقة والاستقلالية، فلا ينبغي التشويش على البوصلة، وإلا فإن خراب البصرة سيزداد خرابا.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6540
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6423
| 24 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع في القلب وجعًا عميقًا يصعب نسيانه.. في الجولة الثالثة من دوري أبطال آسيا للنخبة، كانت الصفعة مدوية! الغرافة تلقى هزيمة ثقيلة برباعية أمام الأهلي السعودي، دون أي رد فعل يُذكر. ثم جاء الدور على الدحيل، الذي سقط أمام الوحدة الإماراتي بنتيجة ٣-١، ليظهر الفريق وكأنه تائه، بلا هوية. وأخيرًا، السد ينهار أمام الهلال السعودي بنفس النتيجة، في مشهد يوجع القلب قبل العين. الأداء كان مخيبًا بكل ما تحمله الكلمة من وجع. لا روح، لا قتال، لا التزام داخل المستطيل الأخضر. اللاعبون المحترفون الذين تُصرف عليهم الملايين كانوا مجرد ظلال تتحرك بلا هدف و لا حس، ولا بصمة، ولا وعي! أما الأجهزة الفنية، فبدت عاجزة عن قراءة مجريات المباريات أو توظيف اللاعبين بما يناسب قدراتهم. لاعبون يملكون قدرات هائلة ولكن يُزج بهم في أدوار تُطفئ طاقتهم وتشل حركتهم داخل المستطيل الأخضر، وكأنهم لا يُعرفون إلا بالاسم فقط، أما الموهبة فمدفونة تحت قرارات فنية عقيمة. ما جرى لا يُحتمل. نحن لا نتحدث عن مباراة أو جولة، بل عن انهيار في الروح، وتلاشي في الغيرة، وكأن القميص لم يعد له وزن ولا معنى. كم كنا ننتظر من لاعبينا أن يقاتلوا، أن يردّوا الاعتبار، أن يُسكتوا كل من شكك فيهم، لكنهم خذلونا، بصمت قاسٍ وأداء بارد لا يشبه ألوان الوطن. نملك أدوات النجاح: المواهب موجودة، البنية التحتية متقدمة، والدعم لا حدود له. ما ينقصنا هو استحضار الوعي بالمسؤولية، الالتزام الكامل، والقدرة على التكيّف الذهني والبدني مع حجم التحديات. نحن لا نفقد الأمل، بل نطالب بأن نرى بشكل مختلف، أن يعود اللاعبون إلى جوهرهم الحقيقي، ويستشعروا معنى التمثيل القاري بما يحمله من شرف وواجب. لا نحتاج استعراضًا، بل احترافًا ناضجًا يليق باسم قطر، وبثقافة رياضية تعرف كيف تنهض من العثرات لتعود أقوى. آخر الكلام: هذه الجولة ليست سوى بداية لإشراقة جديدة، وحان الوقت لنصنع مجدًا يستحقه وطننا، ويظل محفورًا في ذاكرته للأجيال القادمة.
3126
| 23 أكتوبر 2025