رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لقد أُبتذل محمود درويش وانتهى الأمر! الشاعر العظيم الذي حلّق في نص القصيدة ورفعها إلى أفق مُبهر. وليّن الحرف وأنتج ما أنتج من روائع صار يُتمسح به من قبل من لا يفقه من شعره شيئاً. تحول شعره إلى مقولات يرددها منافقون سياسيون. أو جهلة دهماء. أو تجار طماع. ولأنه كان ولا زال قامة فارعة الحضور يتبارى الكل في إظهار القرب إلى ذكراه وتراثه وشعره. شعره الرهيف المنسوج بعمق جواني ورمزية مركبة أصبح يُرى مكتوبا بخطوط رديئة على واجهة بقالة هنا. أو خلفية سيارة يقودها سائق ارعن. أو يتبجح باقتباسه سياسي مكروه. لقد أُبتذل محمود درويش وأسقطه من عليائه "الدهماء" وصار "مشاعاً" – هذا ما يقوله كثير من النخبة الآن في فلسطين وخارجها بتحسر تملؤه مرارة. يشيرون إلى كل مظاهر "المشاعية" ويعددون الأمثلة على الابتذال. تجار وشركات لا هم لها إلا مراكمة الربح تراها تستخدم كلمات من نصوصه. ومؤسسات رسمية تحاول مداراة فشلها السياسي أو الخدماتي بامتشاق بيت شعر له تُصّدّر به أوراقها وتخفي فشلها أمام الناس والمواطنين وراء ما قاله الشاعر يوما ما.
يُشير المُتحسرون كثيرا وتكرارا إلى المقولة الشعرية الأوسع انتشارا وابتذالا. برأيهم. والتي صارت تُرى في كل مكان. وتسمع على كل لسان. مطرزة على واجهة كل شيء: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". "النخبة" العتيدة صارت تشعر بالبؤس والنقمة إزاء هذه الكلمات العنقائية التي تبارز الموت وتحشد الرغبة الجماعية في الحياة عند شعب مقموع من قبل محتل عنصري. لماذا؟ لأنها "ابتذلت" وصارت في كل مكان! يشير المتحسرون النخبويون إلى نصوص شعرية أخرى أو اقتباسات أُنزلت من عليائها لتدور في الشوارع ومع الناس العاديين. قصيدته الغزلية الثرية بالصور والإيحاءات الرغبوية "درس في فن الانتظار" صارت مكتوبة على طاولات المطاعم. وعلى اقداح الشاي. ومقابض "الاراغيل"! الحلم الذي يدغدغ خيال كل شاعر في وصول شعره إلى الناس أيا ما كانت خلفياتهم الثقافية. وأن يُتلى ويُكتب في كل مكان صار في رأي جزء عريض من النخبة التي تدعي امتلاك محمود درويش "ابتذالا"!
في بدايات شعره في الستينات كتب درويش نفسه. في "أوراق الزيتون". منتقدا نخبوية الشعر وانقطاعه عن الناس العاديين وقال في قصيدة مشهورة عنوانها "عن الشعر": "قصائدنا بلا لون. بلا طعم. بلا صوت... إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت... وإن لم يفهم البُسطاء معانيها فأولى أن نذريها. ونخلد نحن للصمت". هكذا كان الوعي الأولي والرسالي لدور الشعر عند درويش في تلك المرحلة. وهو وعي تجاوزه في مراحل لاحقة حيث ابتعد شعره عن إدراك "البُسطا" وتعقدت حمولاته الرمزية. وفي الرحلة الطويلة التي انخرط فيها درويش انتقل من القناعة الرسالية المباشرة لدور الشعر إلى مستوى أكثر تعقيدا وتركيبا إذ توتر وتشظى بين هم إبقاء شعره نضاليا ورساليا مفهوما لكل القراء والبسطاء. وهمّ الاستجابة لغواية الشعر وذاتيتها المفرطة وسماواتها اللانهائية. عبر هو ذاته عن ذلك التشظي والتوتر الدائم في لقاءاته وفي أشعاره أيضا. مما أضاف بعدا معاناة لا تنقصه الملحمية إلى ما أبدع.
حلق درويش بعيدا عن "البسطاء" وكتب شعرا معقدا استغلق في بعض جوانبه حتى على النخبة التي تدعي امتلاكه الآن. وتريد أن تصدر حظر تجول على البسطاء الذين "ينتهكون" دروب شعره ويتجولون في أبياتها وظلالها من دون تقدير عميق لكنهها. خاض تحديا ومغامرة بالغة في الخطورة جوهرها حمل قراءه. النخبة والبسطا. على مرافقته في متاهات رحلته الشعرية. وتعقيداتها. ورمزيتها. وصعوبتها. والتخلي عن مباشرتها الأولى. ورساليتها الصادمة. ولم يكن لنا جميعا القدرة على مجاراة سباقه التراجيدي مع الزمن والموت والقلق الوجودي العميق والرغبة الانتحارية للوصول إلى مرافئ "الشعر الصافي" كما كان يقول. لهث كثيرون في تلك الرحلة الأوديسية في الشعر والوطن والحب والأنسنة والفلسفة ومبارزة الموت. وكل منهم توقف عند محطة من محطاتها. بهره نص هنا. أو قصيدة هناك. فظل هناك يتأمل اكتشافه. كل مُكتشف لسر من أسرار الشعر الدرويشي أحس بشعور غريب بأنانية الامتلاك والاستحواذ. كأن الشاعر صار ملك القارئ الذي فكك شفره الرمز الشعري. بعد طول عناء. فكيف إذن يأتي بعد كل ذلك مالك بقالة ما. أو سائق تكسي. ليخط على جدار بقالته المتهالك. أو باب سيارته المهترئ ذلك النص الشعري الثمين المحمل بالأسرار. هكذا وببساطة؟
ليس هناك أي حاجة للتحسر والندب واللطم على "ابتذال" محمود درويش واستخدامه من قبل "اللي بسوى والي ما بسواش!". هذه الحالة الدرويشية العامة وترديد الجميع "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" هي ديمومة حياة الشاعر نفسه وانتصاره على الموت حتى بعد مماته. هي الحلم والأمنية التي يشتهيها كل شاعر وكاتب. التحسر والندب واللطم تكون مشروعة لو حل الموت في جسد الشاعر وحل في إرثه وشعره أيضاً ولم يترك وراءه سوى نسيانه. والمفارقة الكبيرة أن ثقافة التحسر والتأوه تثير النقمة والسخرية في آن معاً. تخيلوا لو شطبت كل الأشعار والاقتباسات الدرويشية التي تثير حنق النخبة الاحكتارية لدرويش وحل بدلا منها مقاطع لأغان رخيصة لهيفاء وهبي أو نانسي عجرم؟ عندها سوف تشتغل ثقافة التحسر والتأوه لتندب الحاضر والناس والشعب والانحطاط الثقافي الذي لا يلتفت للشعر والحكمة والقراءة وينساق وراء أغان هابطة. في الحقيقة يمكن القول أن الناس تحيروا في شأن "النخبة"! إذا أحبوا محمود درويش بطريقتهم واقتبسوه وغنوا معه و "ابتذلوه" فإن ذلك يثير غضب النخبة الكريمة. وإذا ابتعدوا عنه وخافوا من غموض شعره في "درس الانتظار" ورددوا عوضا عنه شعرا غزليا رديئا يتحدث عن الأثداء والأرداف فإن النخبة الكريمة سوف تشتم انحطاط ثقافة الشعب وابتعادهم عن درويش! لو كتب الناس بعضا من نصوص أغاني شعبان عبد الرحيم على واجهات محلاتهم. لتعالت أصوات النخبة تحسرا مقارنة شعوبنا المُنحطة مع شعوب العالم المتحضرة. ولقالوا انظر إلينا وانظر إلى البشر المحترمين الذين. مثلاً. ينسخون الشعر الراقي في محطات المترو في باريس؟ يحتار الناس في أمر النخبة الكريمة كيف تشير إلى رقي الفرنسيين عندما "يبتذلون" شعرهم وشعرائهم. والى انحطاطنا عندما نفعل الأمر نفسه؟ لكن الشيء الجميل في كل ذلك يبقى في صورة عنيدة ضد النخبة لسائق تكسي أشعث أغبر. يسوق بلا أدنى رعاية لقانون سير. يطل برأسه وربما نصف جسمه من شباك سيارته. يدخن سيجارته برعونة. ويصيح على صديق مار على الرصيف. وصوت غناء من داخل السيارة يرنم "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"!
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ماذا يعني أن يُفاجأ أولياء أمور بقرار مدارس أجنبية رائدة في الدوحة بزيادة تتراوح بين 30% و75% أُعلن عنها في تاريخ 20 أكتوبر الماضي ويجب تطبيقها في الفصل الدراسي الثاني على وجه السرعة؟! ماذا يعني أن يجد هؤلاء الآباء أنفسهم أمام قرار لا يساعدهم على نقل أبنائهم لمدارس أجنبية أخرى في الفصل الدراسي الثاني ومن المفترض أن يدفعوا مبلغ 17 ألف ريال قطري عوضا عن سبعة آلاف ريال كانت تدفع بجانب الكوبون التعليمي لكل طالب قطري الذي يُقدّر بـ 28 ألف ريال وباتت زيادة العشرة آلاف ريال تمثل عبئا على رب الأسرة فجأة بعد أن أصبحت 17 ألف ريال ودون إشعار مسبق؟! ولم هذا القرار والطلاب على وشك إنهاء الفصل الأول وإدارات هذه المدارس تعلم بأن الآباء سوف يمتثلون في النهاية لهذا القرار غير المبرر له لصعوبة إلحاق أبنائهم إلى مدارس أجنبية أخرى أقل في التكاليف التي زادت فجأة ودون إنذار مسبق لطلب الزيادة في مخالفة واضحة للتعميم رقم (21/2023) وكأنها تلزم الآباء إما أن تدفعوا أو اتركوا أبناءكم في البيوت في هذا الوقت الحرج مع بداية الفصل الثاني رغم أن هذه المدرسة قامت بمخالفة تنظيمية كونها لم تنشر جدول الرسوم المعتمدة للسنة الدراسية كاملة مخالفة لتعميم رقم (11/2025) وفرضت رسوما إضافية غير معتمدة عند تقديم التسجيل أو الاختبارات أو التسجيل والموارد كما فرضت رسوما غير قانونية على اختبارات قبول مرحلتي الروضة والتمهيدي مخالفة لتعميم عام 2022؟!. كل ما قيل أعلاه هي مجموعة شكاوى كثيرة وعاجلة من أولياء الأمور تقدموا بها لوزارة التربية والتعليم بعد أن قامت مدارس عالمية أجنبية في قطر بفرض هذه الزيادة في الرسوم بواقع 17 ألفا يجب أن يدفعها كل ولي أمر من حر ماله بجانب ما يُصرف للطالب من كوبون تعليمي بقيمة 28 ألف ريال بعد أن كان يدفع سبعة آلاف ريال فقط بجانب الكوبون كل عام فهل هذا معقول؟! وبات السؤال الأكبر الذي يعلق عليه أولياء الأمور هل بات التعليم مجانيا فعلا لأبنائنا في ظل هذه التجاوزات التي تمارسها إدارات المدارس الأجنبية التي تحظى بعدد كبير من الطلبة القطريين ولم اختارت أن تكون هذه الزيادة في منتصف السنة الدراسية رغم علمها بأن هذا الأمر يربك الآباء ويضعهم في دائرة سوء التخطيط من حيث إيجاد مدارس بديلة في هذا الوقت الحرج من العام الدراسي ناهيكم عن إرباكهم بدفع 17 ألف ريال لكل طالب بعد أن كانت سبعة آلاف ريال فقط بينما كان مبلغ الكوبون التعليمي من الدولة يسد بباقي الرسوم المطلوبة؟! أنا شخصيا أجد الأمر مربكا للغاية وإصرار هيئات هذه الإدارات على أنها حصلت على موافقة الوزارة على هذه الزيادات في الرسوم يزيد الحيرة لدينا أكثر خصوصا وأنه لم يخرج مصدر رسمي من الوزارة ليرد على هذه الشكاوى التي وصلت لإدارات هذه المدارس بجانب ما يتم نشره على وسائل التواصل الاجتماعي من أسئلة تنتظر إجابات من المعنيين في الوزارة وعلى رأسها سعادة السيدة لولوة الخاطر التي تلقى احتراما وتقديرا لها ولجهودها التي بذلتها منذ استلامها هذا المنصب القدير بشخصية مثلها. ولذا فإننا نأمل من سعادتها أن تجد حلا سريعا وناجعا لفحوى هذه المشكلة التي تؤرق بيوت كثير من المواطنين القطريين الذين يلتحق أبناؤهم بهذه المدارس التي تقع تحت مظلة الوزارة من قريب ومن بعيد وهي ليست بالمشكلة التي يجب أن تنتظر لأن مستقبل الأبناء يقف على قرار يطيح بقرارات الزيادة غير المسبوقة والتي لم يتم إخطار الآباء بها قبل بدء العام الدراسي لترتيب أوراق أبنائهم قبل التحاقهم بهذه المدارس الماضية في قراراتها الفجائية وغير مبالية بكم الاعتراض الذي تواجهه بصورة يومية من الآباء وعليه فإننا على ثقة بأن وزارة التربية والتعليم سوف تعطي زخما إيجابيا للشكاوى كما نأمل بإذن الله.
6000
| 11 نوفمبر 2025
ليش ما يمديك؟! بينما ممداني زهران، الشاب ذو الأصول الأوغندية، صار اليوم عمدة نيويورك. لم يولد هناك، بل جاءها مهاجرًا يحمل حلمه في حقيبة سفر، بلا جنسية ولا انتماء رسمي. حصل على الجنسية الأمريكية عام 2018، وبعد سبع سنوات فقط أصبح نائبًا في برلمان ولاية نيويورك وأحد أبرز الأصوات الشابة في المشهد السياسي الأمريكي. عمره اليوم 34 سنة فقط، لكنه أصبح نموذجًا يُثبت أن الإرادة حين تتجذر في النفس وتُروّى بالجد والاجتهاد، تصنع المعجزات.ولا حاجة لأن احكي عن معاناة شابٍ مهاجرٍ في مدينةٍ كـنيويورك، بكل ما تحمله من صعوباتٍ وتحدياتٍ اجتماعية واقتصادية. والآن ماذا عنك أنت؟ ما الذي ينقصك؟ هل تفتقد التعليم؟ قطر وفّرت لك واحدًا من أفضل أنظمة التعليم في الشرق الأوسط والعالم، وجلبت إليك أرقى الجامعات العالمية تخدمك من امام عتبة بيتك، بينما آلاف الشباب في نيويورك يدفعون مبالغ طائلة فقط ليحصلوا على مقعد جامعي… وربما لا يجدونه. هل تفتقد الأمان؟ قطر تُعد من أكثر دول العالم أمانًا وفقًا لمؤشرات الأمن الدولية لعام 2025، بينما تسجّل نيويورك معدلات جريمة مرتفعة تجعل من الحياة اليومية تحديًا حقيقيًا. هل تفتقد جودة الحياة؟ قطر من أنظف وأجمل دول العالم، ببنية تحتية حديثة، وطرق ذكية، ومترو متطور يربط المدن بدقة ونظام. أما نيويورك، فتعاني من ازدحامٍ وضوضاءٍ وتراجعٍ في الخدمات العامة، والفرق يُرى بالعين المجردة. هل تفتقد الدعم والرعاية؟ قطر من أعلى دول العالم في متوسط دخل الفرد، بينما في شوارع نيويورك ترى المشردين والمدمنين ينامون على الأرصفة. أما في قطر، فالدعم لا يقتصر على الجانب المادي فقط، بل يمتد إلى الرعاية الصحية المتقدمة التي أصبحت من الأفضل عالميًا. فالنظام الصحي القطري يُعد من الأكثر تطورًا في المنطقة، بمستشفياتٍ حديثةٍ ومعايير طبيةٍ عالمية، ورقمنةٍ شاملةٍ للخدمات الصحية تسهّل وصول كل مواطنٍ ومقيمٍ إلى العلاج بأعلى جودة وفي أسرع وقت. وتُعد مؤسسة حمد الطبية ومستشفى سدرة للطب ومراكز الأبحاث والمراكز الصحية المنتشرة في كل مدينة نموذجًا لاهتمام الدولة بصحة الإنسان باعتبارها أولوية وطنية. إنها دولة تجعل من كرامة الإنسان وصحته وتعليمه أساسًا للتنمية، لا ترفًا أما الفرص، فحدّث ولا حرج. بلدك تستثمر في شبابها بلا حدود وتفتح لهم كل الأبواب داخلياً وخارجياً في كل مؤسسات الدولة وقطاعاتها. وهذا ليس كلاماً نظرياً بل هناك تطبيق عملي وقدوة حاضرة. فقطر أميرها شاب، ووزيرها شباب، وأركان دولتها شباب محاطون بالخبرات والكفاءات. أما هناك، في نيويورك، فالشباب يقاتلون وسط منافسة شرسة لا ترحم، فقط ليجدوا لأنفسهم مكانًا… أو فرصةً ليتنفسوا الهواء. فما هو عذرك إذًا؟ ممداني نجح لأنه عمل على نفسه، ولأن أسرته زرعت فيه حب المسؤولية والاجتهاد. أما أنت، فأنت اليوم في وطنٍ منحك ( الجنة التي في الأرض ) وكل ما يتمناه غيرك: الأمن والأمان والرغد في العيش والتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية التي تُحلم بها شعوب الأرض. الفرق ليس في الظروف، بل في القرار. هو قرر أن يبدأ… وأنت ما زلت تنتظر “اللحظة المناسبة”. لا تنتظر الغد، فالغد لا يصنعه إلا من بدأ اليوم. لا تقول ما أمداني.. لأنه لن يمديك بعد هذا كله.. وإذا تقاعست نفسك تذكر ممداني الحقيقي.
4665
| 11 نوفمبر 2025
في السودان الجريح، لا تشتعل النيران في أطراف تلك الجغرافيا فحسب، بل تمتد لتأكل الكيان العربي وضميره الخامل، فهذا الوطن العريق الغني بالثروات الطبيعية والبشرية أنهكته الصراعات حتى غدت أجهزته كجسدٍ بلا رأس، تتنازعها الصراعات وتعدد الولاءات وتتقاذفها الأهواء والامزجة، ومن يتأمل المشهد اليوم يدرك أن الأزمة في السودان لم تكن وليدة صدفة، بل نتيجة حتمية لتراكم طويل من الخلل والضعف المنبثق ابتداءً من الصراعات السياسية في القرن العشرين حتى اليوم حيث الصراع بين الشرعية و قوات الدعم السريع. فالأزمة السودانية ليست خلافًا محليًا على سلطة أو موارد، بل هي صورة مكبّرة لأزمة أوسع تضرب الجسد العربي كله، فعلاً هي أزمة في العقل العربي، فما زال بعض الأطراف ذو العلاقة بالأزمة والتأثير الإقليمي يتعامل مع السودان بوصفها غنيمة، لا منظومة عربية تحتاج الى استقرار، فعندما يفشل العقل العربي الجمعي في الترويج والسعي الى بناء مؤسسات عربية حقيقية، نجد أن البعض يُقصي الكفاءات لحساب الولاءات السياسية، ويتّخذ القرار الاستراتيجي من موقع الانفعال والمزاجية والحقد الدفين لا من منطق التخطيط السليم، فإنه بذلك يزرع بذور الفوضى في كل أرض عربية، والسودان اليوم إحدى ثمار تلك البذور. لذلك فإنّ ما يحدث في السودان ليس معزولًا عن السياق العربي العام وصراعاته، بل هو امتداد لنمطٍ مألوف من الإخفاق العربي في احتواء الأزمات والسعي الى بناء الدولة وحماية السلطة والشرعية، فالأزمة هناك ليست صراعًا داخليًا فقط، بل نتاج تداخل إراداتٍ خارجيةٍ تحاول إعادة إنتاج الفوضى في السودان والعالم العربي. فلقد تحوّل السودان، في لحظةٍ مأساوية، إلى ساحة تصفية حساباتٍ إقليمية، يُدفع ثمنها من دم المدنيين وأشلاء الأبرياء، والمدافع تُطلق في السودان، لكن العقول التي تُحرّكها تقيم في عواصم أخرى، تلك التي تملك المال والإعلام والسلاح، وتتوهم أن تفكيك السودان سيمنحها دورًا أكبر في الإقليم الشرق أوسطي. ومع الأسف فإنّ بعض الأنظمة أو الإدارات العربية ما زالت غارقة في تراث الحكم الغريزي الثأري، فلا تفكر بمنطق الدولة الحديثة المبنية على تصدير الايجابي من العلاقات المثمرة مع الدول الأخرى، بل تفكر بمنطق الهيمنة القديمة، فترى في ضعف السودان فرصةً لمرادها، وفي فوضاه مجالًا لتوسيع نفوذها ولو كان ذلك بإشعال نار الفتن، وهنا تكمن المأساة الأكبر حين تتحول بعض الإدارات العربية إلى غرف تحكمٍ لأزمات الآخرين بدل أن تكون منصاتٍ للحلول وإحلال السلام والتآخي، وحين ينسى بعض القادة أن دعم الشرعية في السودان ليس خيارًا سياسيًا، بل واجب أخلاقي وإنساني لحماية فكرة الدولة العربية نفسها. والمذابح التي يشهدها السودان جريمة ضد الإنسانية، وإن الصمت العربي عنها جريمة ضد الوعي والتاريخ، لأنّ من يترك دولةً عربية تسقط دون أن يساند شرعيتها، يوقّع من حيث لا يدري على سقوط القيم العربية المشتركة. فلتكن نصرة السودان اليوم دفاعًا عن الدولة والضمير الانساني لا عن الأشخاص، ودفاعاً عن الشرعية، وعن العقل العربي الذي آن له أن يخرج من أسر الصراعات والحقد الدفين إلى وعيٍ إداريٍ جديدٍ يؤمن أن قوة الأمة العربية تبدأ من وحدة مؤسساتها لا من هدم البلاد والعباد.
2556
| 05 نوفمبر 2025