رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
الحمد لله الذي بسط الأرض وجعلها كلها موطنا للإنسان يتنقل فيها حيث يشاء، والصلاة والسلام على من نشر الدعوة بين أرجاء الأرض، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لم تكن الحضارة الإسلامية يوماً منغلقة على ذاتها، ولم تمنع يوماً التواصل بين المسلمين وأهل الثقافات الأخرى، بل كانت حضارة منفتحة على الآخرين، بكل ما لديهم من خبرات وثقافات، وأفكار وعادات، ولم يكن هناك خوف على الإسلام أو المسلمين، لأنهم كانوا يملكون الموازين والمعايير التي تمكنهم من الاختيار الواعي، والحكم على الأشياء.
قارنوا هذا بسياسة العزل في روسيا التي اتبعها " ونستون تشرتشل " في أربعينيات القرن الماضي، حيث أصدر مرسوماً يقضي بعدم خروج أو دخول أحد إلى روسيا مدة عشرين سنة، وهو ما عرف آنذاك بـ " الستار الحديدي"، فمنع حتى الإعلام بصوره المختلفة من دخول روسيا، بهدف بناء ونشر وتثبيت الفكر الشيوعي فيها.
جيل الصحابة كان جيلاً منفتحاً
والحديث التالي يوضّح أن المسلمين أيام النبي ( كانوا منفتحين على الحضارات الأخرى، والثقافات القريبة منهم، يقول أبو هريرة (كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَؤونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة : 136] )) رَوَاهُ الْبُخَارِي
وقال النبي ( حَدِّثُوا عَن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ ) أحمد
هذا الانفتاح كان منضبطاً بضوابط في مجمل تؤدي إلى هدف واحد، وهو ألّا يؤثر هذا الانفتاح على ثوابت الإيمان أو قطعيات الشريعة.
عالم جديد
هكذا أتخيل حضارة الإسلام في المستقبل، حضارة منفتحة على العالم، وليس منغلقة على ذاتها ومكوناتها، لأن البعض قد يتخيل الحضارة قائمة على فكرة " كل شيء حرام وكل شيء ممنوع " فالفن حرام، والإنترنت حرام، وقس على ذلك الكثير مما اختلف حوله العلماء.
ومن تخيل الحضارة بهذه الصورة القاتمة، هل سيتمكن من تطبيق المنع ..؟ الجواب: لا، فعهد المنع ولّى، وبوجود الإعلام الحديث كالفضائيات لم يعد بإمكان أحد الحجر على العقول أو محاصرة الأفكار، ومصادرة الآراء، وكم ضحكت عندما تقرر بعض الدول منعي وبعض الدعاة من دخول أراضيها، وكأنهم سيحولون بيننا وبين الناس، ولقد أطال الله تعالى في عمرنا حتى رأينا شباباً أشعلوا ثوراتهم باستعمال الفيسبوك والتويتر وغيرها من أدوات التواصل الاجتماعي، وأطاحوا بزعماء دول، ورؤساء حكومات.
- التقوى هي المانعة والحاضنة
نحن نتحدث عن عالم جديد لا مكان للمنع فيه، فحضارة الإسلام لا تمنع الناس من الفكر والثقافة والتعبير عن الرأي، لأن الشيء الذي سيمنع الناس هو تقوى الله تعالى، والتربية السليمة، وليس القهر والاستبداد، والظلم والتعسف، نحن نستطيع أن نضبط ما بين أيدينا من وسائل الثقافة والإعلام، كفضائياتنا وقنواتنا، لكننا أبداً لن نستطيع أن نضبط كل العالم بفكرتنا، فمثلاً من سيملك القدرة على منع الناس من استخدام الانترنت ..؟!
ليس القهر والاستبداد الذي سيحمي شبابنا وأبناءنا، بل سيحميهم تقوى الله تعالى أولاً، ثم جرعة قوية من التربية الصالحة، وتقديم إعلام يرتقي بالقيم والسلوكيات الإنسانية، إعلام بديل عن إعلامنا الحالي، وتلفزيون الواقع الذي في غالبيته شرّ، وله إسهامات كبيرة في الانحطاط، ونشر الفساد في المجتمعات.
- التجربة الماليزية
لن أتحدث هنا عن تجربة "ماليزيا " في جانب التطور والصناعة، بل سأتناول كيفية تعامل الدولة مع الإعلام الفاسد، ومع القنوات الفضائية التي تبث ما يخالف قيم ومبادئ المجتمع الماليزي المسلم.
أنشئت شركة " أسترو " لتزويد المشتركين بالقنوات الفضائية، وبالنسبة للمشتركين تقوم الشركة بحذف أي لقطة فيها إخلال بالآداب، أو مخالفة للقيم، أو إساءة للأخلاق، عن طريق تأخير بث بعض البرامج، فالأخبار يتم تأخير بثها (10) ثوان، والبرامج العادية يؤخرونها نصف ساعة، بهدف حذف أي إعلام فاسد.
وفعلهم هذا ليس تحكماً سياسياً، أو تعدٍ على حريات الناس واختياراتهم، بل ضبط للأخلاق، لأن الحرية الفكرية مطلقة، لكن الأخلاق يجب أن تضبط بالتقوى والقانون، ويعاقب من ينحرف عنها، فنحن نريد حضارة إسلامية منفتحة فكرياً وحضارياً وسياسياً، لكن الجانب الأخلاقي لا بد من أن نضبطه بقدر الاستطاعة.
- حضارة الإسلام
أعجبتني كلمات للبروفيسور " إفرنج " الأستاذ في جامعة تينيسي (Tennessee) الأمريكية وعلمت أنه أسلم، يقول للمسلمين ناصحا " إنكم لن تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علميًا، أو تقنيًا، أو اقتصاديًا، أو سياسيًا، أو عسكريًا، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا تلك الدول تجثوا على رُكَبها أمامكم بالإسلام، أفيقوا من غفلتكم لقيمة هذا النور الذي تحملون، والذي تتعطش إليه أرواح الناس في مختلف جنبات الأرض، تعلموا الإسلام وطبقوه، واحملوه لغيركم من البشر تنفتح أمامكم الدنيا، ويَدِنْ لكم كل ذي سلطان، أعطوني أربعين شابًا ممن يفهمون هذا الدين فهمًا عميقًا، ويطبقونه على حياتهم تطبيقَا دقيقًا، ويحسنون عرضه على الناس بلغة العصر وأسلوبه وأنا أفتح بهم الأمريكتين ".
تعقيب
حالياً أتفق مع البروفيسور " إفرنج " أننا لا نستطيع منافسة الدول الكبرى، لكن بعد (٢٠) سنة نستطيع بإذن الله تعالى.
عندنا استعداد كامل لبناء الحضارة، لكننا لا نريد أن نبنيها على نفس التصور الذي يقرؤه الناس في الكتب، لأن العالم من حولنا تغير، هناك ثوابت وأصول لا مجال للاجتهاد فيها، وهناك قضايا ومسائل يمكن الاجتهاد فيها، بما يحقق مقاصد الشريعة، ولا يتعارض مع ثوابت ومقومات الحضارة الإسلامية.
حضارتنا تمنح الحقوق لكل مكونات المجتمع، تمنح المحفزات للعلم والإنجاز، حضارة تتعاون مع المسلم والكافر ... فيما نتفق عليه، ولا يخالف ثوابتنا ومبادئنا، حضارة أساسها العمل الجماعي لبناء حضارة تسعد بها البشرية.
ماذا استفادت القضية الفلسطينية بعد حرب غزة؟
شهدت القضية الفلسطينية واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها الحديث، حين اندلعت مواجهة غير مسبوقة بين فصائل... اقرأ المزيد
9
| 26 أكتوبر 2025
سلامٌ على غزة وأهلها
تباشر قناة الجزيرة منذ أيام مضت أعقبت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد توقيع الاتفاق في شرم... اقرأ المزيد
15
| 26 أكتوبر 2025
رؤية الأسرة القطرية
ألقى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، خطابًا شاملاً بمناسبة انعقاد دور... اقرأ المزيد
12
| 26 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6180
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3747
| 21 أكتوبر 2025