رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أولاً- العقل الذي يهتدي بوحي السماء
أزعم بل أكاد أجزم أنه لا يوجد تناقض بين المنطق السليم والدين، ومن الكتب التي غيّرت حياتي بهذا الاتجاه كتاب " قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن " لمؤلفه " نديم الجسر" مفتي طرابلس في لبنان.
يقول الشيخ "نديم الجسر " رحمه الله: الفلسفة.. بحرٌ ليس كالبحور، فالبحر إن وقفت على شاطئه سلمت، وإن دخلت في أعماقه غرقت، والفلسفة إن وقفت على أطرافها غرقت، وإن تعمّقت بها سلمت ".
بناء على عدم وجود التعارض أزعم كذلك أن كلّ ما في دين الإسلام منطقي، ومن اليسير على العقل الإنساني – إذا كان سليماً- أن يتقبله ويقتنع به، لأن كل قضايا الدين ومقاصد التشريع، تنطلق من نقطة واحدة وهي إثبات وجود الله عز وجلّ، وإفراده بالعبادة.
ثانياً- التشريع المحقق للمصالح
أما المعاملات فغايتها تحقيق مصالح العباد، يقول ابن القيم رحمه الله " إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ".
فيستحيل أن تجد تشريعاً إسلامياً يتعارض مع مصالح الناس، ومتى وجدنا تعارضاً بين الشرع والمصالح الحلال للناس، فلنُعِد النظر ولنكرره، فلعل فهمنا للنصوص كان قاصراً، لأنه يستحيل أن تعطّل الشريعة الإسلامية المصالح الحلال للناس، ومن هنا كانت منطقية الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها مع العقل السليم، والفهم القويم.
ثالثاً- العدل المؤيد بالإحسان
جمع الله تعالى بين العدل والإحسان في القرآن الكريم، فقال عزّ من قائل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ). النحل/90
اعتبر ابن مسعود هذه الآية أجمع آية في القرآن فقال : (إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ) وهي ذات الآية التي عندما سمعها الوليد بن المغيرة قال لقومه: "والله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته".
- إحسان عمر
تروي كتب التاريخ أن الفاروق عمر مرّ ذات يوم برجل كبير في السنّ من أهل الذمة يقوم على أبواب الناس يسألهم الإحسان والصدقة، فسأله عمر: ما شأنك يا رجل..؟
فقال الذمّي: لقد عجزت عن دفع الجزية، فأنا أسأل الناس حتى أجمعها وأعيل نفسي.
فقال عمر (ما أنصفناك! أخذنا منك الخراج شاباً، فلما كبرت سنك خذلناك، ثم أمر أن يُعطى من بيت مال المسلمين عطاءً (راتباً) يعينه بقية حياته.
إذن العدل يقتضي أن يدفع هذا الذمّي ما عليه من جزية، أسوة ببقية أهل الذمة، ولأنه قانون عام ليس فيه محاباة، هذه هو العدل، لكن عمر عامله بالإحسان ولم يعامله بالعدل، فالإحسان أعم وأرفع من العدل، العدل أن يأخذ الإنسان حقه ويعطي الآخرين حقوقهم، أما الإحسان فإن تعطي فوق ما هو عليك وما هو مطلوب منك.
- العدل أساس الحكم
فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُول اللَّهِ؟
فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا). البخاري
رابعاً- الحقوق المتوازنة مع الواجبات
وقف عُتبة بن أبي سُفيان يوماً خطيباً في أهل مصر وقال: " لنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا " والمعنى أن الحقوق هي أساس الواجبات، وأن الشريعة الإسلامية لا تطالب الناس بالواجبات، إلا وتعطيهم في المقابل حقوقاً، فمن واجبك أن تطيع ولي الأمر، إن أمرك بمعروف، وفي المقابل فإن ولي الأمر مطالب بأن يمنحك حقوقك، من عدالة اجتماعية، وحرية رأي وتعبير، وحفظ كرامتك من أن تهان، فإذا لم تتوفر تلك الحقوق الأساسية فلا سمع ولا طاعة لحاكم لا يؤدي حقوق العباد، ولا يقوم بالواجبات المنوطة به.
ونتيجة لغياب العدالة، وعدم إعطاء الناس حقوقهم، تغيرت مفاهيم الحياة وأصبح شعار أغلبية الناس "كن أول من يأخذ وآخر من يدفع".
- أعطني حقي لأقوم بواجبي
قلنا إن الحقوق هي أساس الواجبات، والقصة التالية توضح بجلاء معنى هذه العبارة، فتروي كتب التاريخ أن بُعِثَ إلى عمر بحلل (أثواب) فأعطى كل مسلمٍ ثوباً، وأخذ هو ثوباً واحداً، لكن عمر كان طويلاً. عملاقاً، كبير البنية، ما كفاه ثوبٌ واحد!
فقال لابنه عبد الله: أعطني ثوبك مع ثوبي؛ لأني رجل طويل، ثوبك الذي هو حصتك مع المسلمين ألبسني إياه.
فقال عبد الله: خذ ثوبي. فلبس ثوبين -تغير الشكل، كيف يلبس ثوبين والمسلمون لبسوا من ثوب واحد- فبدأ الخطبة، وقال: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا، فقام سلمان الفارسي من وسط المسجد، وقال: والله لا نسمع ولا نطيع، فتوقف واضطرب المسجد، وقال: ما لك يا سلمان؟
قال: تلبس ثوبين وتلبسنا ثوباً ونسمع ونطيع.
قال عمر: يا عبد الله! قم أجب سلمان، فقام عبدالله يبرر لـسلمان، وقال: هذا ثوبي الذي هو قسمي مع المسلمين أعطيته أبي، فبكى سلمان، وقال: الآن قل نسمع. وأمر نطع ".
فرسالة سلمان باختصار: إذا أردت مني واجبات فأعطني حقوقي، هكذا أفهم حضارة الإسلام وهكذا أتخيلها وأتصورها، وليس على طريقة علماء السلاطين الذي يطالبون الناس بطاعة حكامهم، على ما هم عليه من ظلم واستبداد وفجور، وأكل لحقوق الناس، ونهب لمقدرات الأمة، وتعطيل لشرع الله جلّ وعلا.
خامساً- وازع السلطان المكمّل لوازع الدين
الأصل في الإسلام أن الوازع هو الدين، أما السلطان (الأمن والقانون والجيش) فمكمّل ومعين للشرع على تحقيق المقاصد، وليس بديلاً له، لأن الدولة في الإسلام تقوم على ركنين أساسيين هما التقوى والقانون، وهناك تكامل بينهما، فأحياناً يكون تأثير الحاكم المسلم في حياة الناس أكثر من الأحكام الشرعية، خاصة عندما يضعف الوازع الديني في نفوس الناس، بمعنى أن الحاكم المسلم يمنع اقتراف المحارم، ويحول بين الناس وبين ارتكاب المحرمات والفواحش، فينزجر لذلك ضعيف الإيمان مخافة العقوبة.
- قانون وتقوى
القانون وحده لا يقود الناس، ولا يضبط حياتهم، بل لا بد مع القانون من التقوى التي تأمر الناس بالخير، وتنهاهم عن الشر، وتحثهم على الإحسان، وجد القانون أم لم يوجد.
واقع المسلمين اليوم لا يمثل الإسلام، وفهم بعض العلماء لا يمثل الإسلام، وتطبيق بعض الدول لأجزاء من الشريعة لا يمثل حقيقة الشريعة ومقاصدها، والإسلام لا يزال قادراً على تقديم منهج يسعد البشرية، منهج لا يكتفي بالضمير وحده ولا القانون وحده، إنما يدمج بينهما (التقوى والقانون) لإقامة دولة العدل والإحسان.
مِن أدوات الصهيونية في هدم الأسرة
ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن يوماً محصورًا في إقامة كيانٍ على بقعة من الأرض، بل... اقرأ المزيد
516
| 02 نوفمبر 2025
الإعلام والرأي العام.. وكسب العقول والقلوب!!
صادف أمس الذكرى 29 لانطلاق شبكة الجزيرة بقنواتها ومنابرها المتعددة في عصر الإعلام لتشكل رقما صعبا ومؤثراً بإحداث... اقرأ المزيد
174
| 02 نوفمبر 2025
الســـودان القضيــة التي ماتت
عام 2025 يوشك على الانتهاء بعد شهرين من الآن وأزمة السودان التي تفجرت منذ 15 أبريل 2023 تتفاقم... اقرأ المزيد
201
| 02 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6693
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2754
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2418
| 30 أكتوبر 2025