رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
بشر وزير الخارجية رياض ياسين المؤيدين والمعارضين لعاصفة الحزم بأن بعد الشدة وآلام الحرب النفسية والاجتماعية والاقتصادية رخاء واستقرارا، قائلا أثناء وجوده في دولة الكويت: "عندما تعود الشرعية سيكون هناك مشروع لإعادة الإعمار والتنمية والبناء، وهو عبارة عن مشروع مارشال عربي أسميه مشروع سلمان التطويري لليمن". وبينما تنهي عمليات عاصفة الحزم مرحلتها الأولى المتمثلة بالضربات الجوية أكد المتحدث باسم العاصفة أن مرحلة جديدة بدأت ليتقلص خلالها نطاق الغارات ويتم التركيز على استهداف ميليشيا الحوثي على الأرض وحماية المدنيين ودعم عمليات الإغاثة. وهنا يطرح اليمنيون كثيرا من الأسئلة أهمها: لماذا لم يستهدف القصف قصور الرئيس المخلوع ومخابئه؟ لماذا لم تزود المخابرات الأمريكية غرفة عمليات العاصفة بمواقع وتحركات عبد الملك الحوثي؟ كيف سيكون هناك حل سياسي ورأس الأفعى لا يزال يلدغ اليمنيين؟ كيف سيتم البدء بعملية سياسية والثعلب الماكر لا يزال حرا طليقا يمارس هواياته الانتقامية؟ هل سيبدأ اليمنيون بعد عاصفة الحزم حوارا جديدا تتخلله مؤامرات ومكايدات وتدخلات، أم أنهم تحاوروا بما فيه الكفاية ولم يبق سوى تطبيق نتائج مؤتمر الحوار الوطني الشامل؟
لا شك أن الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح فقد توازنه بعد الضربات الجوية التي لم يكن يتوقعها مطلقا لأنه كان يتكئ على دهائه ومناوراته وتلاعبه وكذبه على الداخل والخارج، لذلك أصبح يتصرف بهستيرية متنقلا من مكان إلى آخر خوفا على حياته، إلى درجة أنه حسب مصادر مقربة يلجأ يوميا إلى تفتيش كل حراسه ويجرد بعضهم من سلاحه الشخصي لكي لا يتعرض للتصفية من أقرب الناس إليه، لأنه يدرك أن عامة الشعب وحتى المقربين منه ضاقوا ذرعا بسلوكه السياسي ويرون أن الخلاص من هذا الوضع الكارثي يتمثل في عدم بقائه في المشهد السياسي اليمني تحت أي ذريعة. من جهة أخرى يرى يمنيون أن عبد الملك الحوثي لا يقل وجوده خطورة على استقرار البلاد من خطورة صالح، لأنه يتقمص صفات المرشد المخلص ويحيط نفسه بهالات من القداسة والاصطفاء فهو أكبر من أن يكون زعيما لجماعة سياسية، بل إن أي تسوية سياسية يجب أن يكون هو مرشدها ولو أرسل بركاته من دهاليز كهوف مران بمحافظة صعدة.
الأزمة اليمنية أصبحت شأنا إقليميا ودوليا بامتياز لذلك نرى مبادرات من أطراف عدة، حيث قدمت إيران مبادرة من أربع نقاط لبدء تسوية سياسية، وعندما قوبلت مبادرتها بالرفض المطلق من وزير الخارجية اليمني ودول التحالف وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، تحاول طهران بذل مساعٍ غير مباشرة عبر سلطنة عمان لإنقاذ الحوثيين والرئيس المخلوع بعد تقلص سيطرتهم العسكرية على الأرض وتعقب حركة مليشياتهم من الجو، وفي المقابل اتساع رقعة المقاومة الشعبية مسنودة بالقوات المؤيدة لشرعية الرئيس هادي وانتصاراتها المتتالية في عدن وتعز ومأرب، لذلك تجري الخارجية العمانية اتصالات مع أطراف يمنية وعربية من أجل احتضان العاصمة مسقط حوارا يتركز حول نقاط محددة أهمها بقاء عبد ربه منصور هادي في منصب رئاسة الجمهورية لحين إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وانسحاب الحوثيين والقوات الموالية للرئيس المخلوع من المناطق التي سيطروا عليها وتسليم كل الأسلحة للمؤسسة العسكرية.
وهي نقاط قديمة ذكرت في اتفاقيات سابقة أبرزها اتفاق السلم والشراكة الوطنية الذي وقع في أوج انتصارات الحوثيين وسيطرتهم على صنعاء في 21 سبتمبر 2014 وظل حبرا على ورق.
بعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على انطلاق عاصفة الحزم وتدمير معظم أهدافها الإستراتيجية المتمثلة في إضعاف قدرات ميليشيا الحوثي والقوات الموالية لصالح برز خلاف داخل القيادة اليمنية الموجودة في العاصمة السعودية الرياض، حيث يرى فريق الرئيس هادي أنه يجب توسيع رقعة العقوبات الدولية لتشمل معاونين للرئيس المخلوع وعلى رأسهم أبو بكر القربي وزير الخارجية السابق ورئيس جهاز الأمن السياسي حمود الصوفي بينما يرى فريق نائب الرئيس خالد بحاح أنه يجب استقطاب وتشجيع أعوان المخلوع على القفز من المركب المتكسر وترك صالح وأقاربه ومن يرتبطون معه برابطة الدم يواجهون مصير الغرق.
وفي المقابل رشحت معلومات تقول إن هناك تباينا في وجهات النظر بين بعض دول مجلس التعاون قبل انعقاد القمة الأمريكية الخليجية المقررة في كامب ديفيد منتصف مايو المقبل، حيث ترى دول ضرورة معاقبة الرئيس المخلوع وحتى استهدافه من قبل طائرات العاصفة، في حين ترى أخرى ضرورة ممارسة ضغوط سياسية من أجل التوصل إلى حل سياسي وإجبار الحوثيين والرئيس المخلوع وحزبه على تقديم تنازلات وإن كانت قاسية.
لكنني أعتقد أن أغلب اليمنيين الذين أيدوا عاصفة الحزم ورفعوا في مظاهراتهم المنددة بممارسات الحوثي وصالح أعلام الدول المشاركة في التحالف، وقبلوا على مضض ما حل ببلدهم من خراب ودمار، لن يقبلوا بأن يكون المخلوع جزءا من أي تسوية سياسية ليمارس العبث من جديد، بل إن مكانه الطبيعي وراء قضبان محكمة الجنايات الدولية، لا يوجد شعب دلل رئيسا مثل اليمنيين، فعندما كان يحكم وينهب ثرواتهم يصفقون، وعندما ضاقوا ذرعا بفساده وجرائمه خلعوه، لكنهم قبلوا بمنحه الحصانة وأن يعيش بينهم، بل ويمارس العمل السياسي، أما اليوم فقد نفد صبر الداخل والخارج ولابد من تحقيق مقولة: آخر الدواء الكي.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6639
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6495
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2697
| 28 أكتوبر 2025
