رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
إن تتابع صدور الحسابات الوطنية السنوية جيد وإن أتى متأخرا بسبب الأوضاع العامة، ولا بد من التنويه بالجهود الكبيرة التي بذلت وتبذل من قبل أجهزة الدولة اللبنانية لإصدارها. لا بد من تقوية مؤسسة الإحصاء الوطني بشريا وماديا وإعطائها الاستقلالية تجاه السياسيين كما في الدول الغربية حتى تقوم بأعمالها بشكل أفضل. نأمل أن تصدر الحسابات النهائية لسنة 2010 في الفصل الأول من 2011 لنعود كما كنا منذ عقود، أي سباقين في إصدار هذه الأرقام المهمة التي لا يمكن إجراء أي تحليل اقتصادي ومالي جدي من دونها. هنالك جوانب إيجابية لحسابات 2009 أهمها وصول نسبة النمو العام الحقيقي إلى 8.5% وتراجع نسبة التضخم من 10.3% في سنة 2008 إلى 1.2% السنة الماضية. ما يقلق هو تدني نسبة القطاعين الأولين من الناتج المحلي الإجمالي إلى حدود 12.5% (منها أقل من 5% للزراعة) مما يؤكد مرة جديدة على ضعف التنويع الاقتصادي وعلى اعتماد لبنان على القطاع الخدماتي وحده لتحقيق نمو عام. هنالك في كل حال اتجاه انحداري للقطاعين الأولين أي للزراعة من 6% من الناتج في سنة 2008 إلى 5% في سنة 2009. أما الصناعة، فانخفضت حصتها في الاقتصاد من أقل من 8% في سنة 2008 إلى 7.5% في سنة 2009. أهمية الزراعة والصناعة هو توزعهما على كل الأراضي اللبنانية وتحديدا وجودهما في المناطق البعيدة التي لا تستفيد من النمو العام الخدماتي كما يجب.
هنالك مخاطر كبرى لوصول القطاع الخدماتي إلى حدود 88% من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة قل وجودها حتى في أعرق الدول تطورا ونضجا في الاقتصاد. في الولايات المتحدة تصل حصة الخدمات إلى %80 من الناتج وفي فرنسا إلى 76% وفي سويسرا دولة الخدمات النوعية بامتياز إلى 73%. تكمن المخاطر في أن القطاع الخدماتي يتأثر سلبا بسرعة بأي خضة سياسية وأمنية يمكن أن تحصل ، أما القطاعان الآخران فيصمدان أكثر بكثير ولا بد من الاتعاظ هنا من تجربة حرب 2006 حيث خرج السواح والزائرون وتوقفت الخدمات وانهار النمو الاقتصادي الذي كان قويا في النصف الأول من السنة. إذا استمررنا في هذه الاتجاهات، ستتدنى أكثر حصة الزراعة والصناعة في الاقتصاد العام وسيكون لها تأثيرات سلبية كبرى على التوزع السكاني والتنمية والرفاهية الاجتماعية والفقر تفوق تصور السياسيين القصير الأمد عموما. إذا قارنا نمو الزراعة والصناعة بالاقتصاد العام بين سنتي 2008 و 2009 ، نرى أنها تدنت في الزراعة بينما ارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة أقل من النمو العام مما يشير إلى اتجاهات غير متوازنة لتطور الاقتصاد اللبناني .
هنا تكمن ضرورة مراجعة السياسات الاقتصادية اللبنانية كي لا نخسر ما تبقى من زراعة وصناعة. المطلوب معروف ويطالب به الصناعيون والمزارعون منذ عقود. يجب التعويض على المزارعين لتغطية الخسائر التي منيوا بها نتيجة العاصفة التي ضربت لبنان والمناطق الزراعية تحديدا منذ أيام. هذا لا يعتبر دعما، إذ إن الخسائر لم تنتج عن عوامل السوق بل عن غضب الطبيعة مما يحتم على الحكومة التدخل للتعويض عبر الموازنة أم عبر التبرعات والقروض أو غيرها من الموارد المالية. كذلك الأمر فيما يخص الصناعة عندما تأتي الخسائر ليس من السوق وإنما من السياسات العامة المسيئة لتطور الصناعة. مطالب الصناعيين معروفة منذ عقود ، فكيف لصناعة أن تحيى من دون كهرباء وكيف لزراعة أن تستمر من دون مياه وري وإرشاد متخصص وتسهيلات تسويقية وضرائبية وتمويلية. فالولايات المتحدة وأوروبا تتدخلان لمساعدة قطاعي الصناعة والزراعة ، فكيف في لبنان حيث مناعة القطاعين أضعف ليس نتيجة عوامل السوق وإنما نتيجة السياسات العامة غير المدروسة والإهمال المتراكم.
مراجعة السياسات الاقتصادية لا تقتصر على لبنان طبعا وإنما هي واجب كل الدول خاصة تلك التي سببت الأزمة المالية العالمية وفي مقدمها الولايات المتحدة . لا يمكن تجاهل الموضوع بعد التجارب المرة التي لحقت بالاقتصاد الدولي حتى في الدول التي لم تصب مباشرة بشظايا الأزمة كمجموعة الدول النامية والناشئة. من أسوأ مؤشرات الأزمة هو ارتفاع نسبة البطالة الشبابية الدولية ( أي بين 15 و24 سنة ) من 11.9% في سنة 2007 إلى 13% في سنة 2009. تبعا لمنظمة العمل الدولية " ILO" ، هنالك 81 مليون شاب وشابة لا يعملون بسبب غياب الفرص ، مما يشير إلى ضياع إنتاج أجيال بكاملها. المطلوب ليس فقط المراجعة ، وإنما التنسيق فيما بين الدول المعنية لتقوية فرص الإنقاذ وبالتالي العودة إلى نسب نمو ما قبل الأزمة . ليس ضروريا تعديل آليات السياسة النقدية لأن أسباب الأزمة لا تعود إليها بل إلى سوء تطبيق الإجراءات القانونية بالإضافة إلى حاجة السلطات إلى أدوات جديدة للرقابة أكثر فعالية.
من ناحية أخرى، هنالك مأخذ أساسي على المصارف المركزية الغربية وفي مقدمها الأمريكي الذي لو رفع الفوائد بشكل أسرع في بداية الألفية الثانية لجنب الاقتصاد الغربي الأزمة العقارية التي امتدت إلى كافة جوانب الاقتصادين المالي والحقيقي. أما السياسة المالية ، فقد ساعد الضخ على تجنب حدوث ركود أكبر أي بطالة مرتفعة تؤثر سلبا على الأوضاع الاجتماعية . في كل حال من الأفضل معالجة الفقاعات المالية عبر السياسة المالية وبالتحديد الضرائبية بدل تغيير الفوائد لأن مستوى الأخيرة منخفض ولا يمكن تخفيضه أكثر، كما أن للسياسة المالية تأثيرا إيجابيا مباشرا على الاقتصاد ككل وليس بصورة غير مباشرة كما هو حال الفوائد. نعلم جميعا وهذه دروس "كينز" إن تأثير زيادة الإنفاق على الاقتصاد أكبر بكثير من تخفيض الضرائب بسبب اختلاف قيمة "العامل المضاعف" بين الحالتين.
أن توافر ادخار دولي كبير أسهم في تخفيض الفوائد في بداية الألفية الحالية مما شجع على الاقتراض والمخاطرة في الاستثمارات لتحقيق أرباح كبيرة. ارتفعت نسبة الادخار الخاص الدولي أي الناتج عن أعمال الأفراد والشركات من 29% من الناتج في سنة 2007 إلى 33% في سنة 2010. أن وجود خلل في الاقتصاد الدولي مرتكز على فائض ادخاري هائل في الصين وآسيا عموما بالتزامن مع عجز في ميزان الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية لا يمكن أن يستمر دون إحداث تقلبات نقدية من فترة إلى أخرى. تؤكد توقعات صندوق النقد على انخفاض العجز المالي في الدول الغربية في فترة 2011 – 2015 نتيجة تخفيض أو توقف الضخ المالي الحاصل منذ سنة 2008. رغم هذا التخفيض المتوقع، سترتفع نسبة الدين العام في الدول الصناعية من 91% من الناتج اليوم إلى 110% في سنة 2015. ارتفاعها بعشرين نقطة يؤدي إلى انخفاض النمو السنوي ب 0.3 نقطة، وهي تكلفة باهظة لدول تنمو أصلا بنسب ضعيفة. يقول الاقتصاديان "راينهارت" و"روغوف" إنه عندما تتعدى نسبة الدين العام من الناتج مستوى آل %90 يصبح الخوف مزدوجا، أي انخفاض نسبة النمو وارتفاع المخاطر المالية التي يمكن أن تؤدي إلى الإفلاس.
يقول الاقتصادي "بول كروغمان" إن من واجب الدول تخفيض عجز الموازنة لأن بقاءه مرتفعا يؤدي عاجلا أو آجلا إلى التضخم. العالم ينسى اليوم غضب التضخم الغائب منذ بداية الأزمة، لكنه ربما يعود في فترات ليست بالبعيدة. لن ينخفض العجز المالي إلا إذا عادت الشركات إلى الاستثمار والمواطنون إلى الإنفاق بحيث تتوسع رقعة الاقتصاد ويرتفع التحصيل الضرائبي العام. المطلوب في رأي "كروغمان" عودة الصحة إلى الاقتصادات الوطنية أي تبقى متوازنة في الداخل والخارج كي تصمد أمام العواصف المالية والاقتصادية الآتية من الخارج. هنالك قلق دولي بشأن الدروس التي اقتبست فعلا من الأزمة والخوف من أن نعود إليها كل عشر سنوات، فتتحقق الخسائر الكبرى التي يدفع ثمنها المواطن العادي الذي لم يكن مسببا لها.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6639
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2703
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2187
| 30 أكتوبر 2025
