رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

عصام بيومي

إعلامي وباحث سياسي
ماجستير العلوم السياسية

مساحة إعلانية

مقالات

231

عصام بيومي

شيء من الخوف!

25 نوفمبر 2025 , 03:56ص

الخوف؟ ما أدراك ما الخوف؟ على مدى عقود طويلة بعد الحرب العالمية الثانية ظل تعبير «سباق التسلح» يُقلق الجميع. كانت الشعوب أكبر المتضررين من نتائجه السلبية. ففي حال السباق المجرد تُستنزف الموارد بلا طائل. وفي حالة تفعيله حروبا تقليدية يعني الدمار والفقر والتخلف. وفي حالة تفجره حربا نووية يكون هلاك البشرية؛ ذلك الرعب الذي كانت تنعق به وسائل الإعلام، وخاصة خلال ما سمي بالحرب الباردة. لكن، وبمرور السنين، لم تحدث تلك الحرب النووية التي ما يزال الإعلام الغربي «يُخوِفُ» من قدومها بلا توقف.

لم تحدث الحرب المهلكة للأخضر واليابس، وإنما حدث هلاك من نوع آخر «بطيء». إنفاق لا متناه على التسلح، وحروب تقليدية لا تتوقف، وفقر متزايد ومعاناة متفاقمة، وتخلف حضاري إنساني على مستويات عدة، برغم كل ما يبدو من تقدم تكنولوجي، لدرجة تجعل من المنطق القول إن السباق الحقيقي كان وما يزال سباقا نحو التخلف.

العامل الأهم في «سباق التخلف» كان «صناعة الخوف» من القادم، بفزاعة سباق التسلح العبثي. فرغم نهاية الحرب الباردة المعلنة، لم يتوقف سباق التسلح. هذا ما يؤكده فريدريك وليام إنكدال في كتابه المهم «الهيمنة الكاملة: الديمقراطية الدكتاتورية في النظام العالمي الجديد»،(2022). بل هو يرى أن الحرب الباردة مستمرة بأشكال عدة. كما تؤكده الأرقام، فوفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، بلغ الإنفاق العسكري العالمي في عام 2023، وحده، نحو 2.5 تريليون دولار. بينما يقدر حجم الإنفاق العسكري العالمي منذ الحرب الثانية بنحو 75 تريليون دولار. هذا يطرح سؤالا مهما، ماذا لو كان المقصود من البداية، فعلا، هو السباق نحو التخلف وليس نحو الهلاك النووي الشامل، ولماذا لا يكون سباق التخلف جزءا من خطط أعداء الإنسانية، لإسقاط النظم والحكومات، لصناعة حكومة عالمية، طرحها ساسة ومتنفذون كثيرون بينهم جاستن ترودو رئيس وزراء كندا السابق المتهم بتحويل كندا إلى «دولة خوف». 

في بيئة الخوف تلك تتساقط يوما بعد يوم أجزاء من القناع الذي تتخفى وراءه النخب ممثلة في الشركات العالمية لتنصيب حكومتها الواحدة المبتغاة. يحدث ذلك من خلال سياسات وتصريحات كان أحدثها تصريح لأليكس كارب المدير التنفيذي لشركة «بالانتير» يزين فيه مزايا إنشاء نظام حكم «عالمي» يراقب البشر؛ أو «امبراطورية خوف»، ليس فقط من التسلح، بل من الفقر والجوع والوباء، والحياة ذاتها!

أكثر من جسد حالة الخوف العالمية تلك في ثقافتنا العربية كان العبقري ثروت أباظة بقصته القصيرة «شيء من الخوف»، 1960، التي صورت كيف يمكن أن يتحكم أصحاب القوة في الناس لدرجة الاستعباد في مجتمع ما، في أي مكان، وأي زمان. ومنحها تحويلها فليما سينمائيا (1969) تأثيرا مضاعفا نتيجة الإسقاطات السياسية والأداء الفني والموسيقي. لكن سباق التخلف مقرونا بالتطور التكنولوجي «الخبيث» أكد أن «شيء من الخوف» لم يكن حالة تخص مجتمعا واحدا بعينه، وزمانا بعينه، بل حالة عالمية مدروسة وممنهجة ومستمرة. ولم يكن أباظة استثناء في تناول تلك الفكرة.

فما أكثر الذين كتبوا عن استغلال الخوف وسيلة لتركيع الشعوب، عبر التاريخ، بداية من إيتيان دي لا بواسيه وماكيافيللي وهوبز الذين تحدثوا قبل نحو 5 قرون عن الخوف من الأذى الجسدي، وكونه وسيلة لإخضاع الناس لسلطة حاكمة. مرورا بأورويل وهكسلي و»هانا أرندت» الذين صوروا صناعة الخوف كـ»نظام» يسلب الإرادة. وصولا إلى مشيل فوكو الذي بلور أفكار من سبقوه في أن الخوف من الرقابة المستمرة يؤدي إلى الخضوع الذاتي. 

 وتظل «أرندت» أكثر من عبر عن الحالة التي جسدها معنى «شيء من الخوف» بقولها إنه (في بعض المجتمعات يصبح «الخوف هو الهواء» الذي يتنفسه الجميع، عندما يتحول التخويف من مجرد وسيلة قمع إلى جوهر للنظام ككل)! وهذا ما تناوله بنيامين باربر في كتابه «امبراطورية الخوف: الحرب والإرهاب والديمقراطية»، قائلا إن الإمبراطورية الأمريكية تقوم على الخوف، تحت غطاء الديمقراطية.

هنا لا يمكن إغفال أفكار نعوم تشومسكي الذي قدم أمثلة عملية على استخدام الإعلام في «صناعة الإذعان» والخوف فيما تسمى الدول الديمقراطية الليبرالية. ولعلنا نلحظ التطبيق العملي لملاحظات تشومسكي في حالة الإغراق اليومي عبر وسائل التواصل التقليدية والحديثة من معلومات تزرع الخوف في قلوب الجميع من «القادم»، وتؤدي إلى ما سماه ستيفين هوكينج «نهاية التفكير النقدي» والاستسلام للأمر الواقع، وسماه آخرون «الغباء المجتمعي». ومن هؤلاء المفكر البريطاني جون ريس المناهض للحرب وسباق التسلح وله دراسة بعنوان «عصر الغباء الجماعي». 

لكن السؤال الآن: هل هذا «القادم» المخيف أمر حتمي، أم أن تجاربنا مع التخويف «الزائف» الممارس علينا منذ عقود طويلة يفترض أن يجعلنا أقل خوفا وقلقا؟ 

 قديما قال دي لابواسييه في كتابه «العبودية المختارة»،(1576)، لا يحتاج الأمر إلا إلى التوقف عن الخوف.. أن نقول «لا». وحديثا يقول تيموثي سنايدر في كتابه «عن الطغيان»، 2021، إن الطغيان يُصنع ببطء عبر تنازلات يتبرع بها الناس نتيجة الكسل السياسي أو الطاعة الصامتة، ويضيف أن مقاومة الخوف تبدأ بأفعال صغيرة. والتجارب تؤكد ذلك. فالخوف قد ينكسر بمواقف غير متوقعة. فكما كان ظهور ضعف أحد أفراد عصابة «عتريس» في «شيء من الخوف» مؤذنا بانهيار نظامه تدريجيا، يمكن أن يكون حدث مثل فوز زهران ممداني بعمودية نيويورك عاملا مساعدا على زوال سلطة الدولة العميقة التي تزرع الرعب في العالم، وتجعل «شيء من الخوف» حالة عالمية.

مساحة إعلانية