رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تكلمنا في المقالات الثلاث الأخيرة عن حقوق المتقاعد، وذكرنا في المقالة الأولى "المتقاعدون" (انظر الشرق 7/6/2020)، وركزنا فيها على انخفاض القيمة الشرائية للعملة، وذكرنا أن الريال القطري فقد جزءاً من قيمته الشرائية بسبب التضخم من جهة، وارتفاع الأسعار التي تفوق نسبة التضخم من جهة أخرى، وذكرنا أن الحكومة قامت بحماية موظفيها عن طريق العلاوة الدورية التي تضاف سنوياً على الراتب، في حين أنها لم تجبر الهيئة العامة للتقاعد والتأمينات الاجتماعية على حماية المتقاعدين، حيث وجدنا أن راتب المتقاعد يتآكل سنوياً بحيث أصبح لا يعادل الثلثين من المبلغ الأصلي كقيمة شرائية، وأثبتنا أن انخفاض القيمة الشرائية للريال القطري مع ثبات المعاش لن يؤثر على المتقاعد فقط بل يؤثر على مجمل الاقتصاد القطري، لأن الزيادة السنوية ستعزز القوة الشرائية للمواطنين، مما سينعش الاقتصاد ككل، وذكرنا أن الخطوة الصحيحة لتصحيح الأوضاع هي زيادة المعاشات التقاعدية بنسبة تكاد تتساوى مع نسبة التضخم أو أعلى بقليل.
وفي المقالة الثانية "المتقاعدون ومكافأة نهاية الخدمة" (انظر الشرق 28/6/2020)، فرقنا بين دور الحكومة ودور الهيئة العامة للتقاعد والتأمينات الاجتماعية ذات الشخصية المعنوية، وذكرنا أن ما يُدفع كاشتراكات في صندوق التقاعد هو ملك الموظف يستفيد منه بعد تقاعده، في حين أن مدة الخدمة، وما يقابلها من مكافآت هي التزام حكومي طبقاً للمادة (169) من قانون رقم (8) لسنة 2009 بشأن إدارة الموارد البشرية، وتدفعه الحكومة للشخص عند تقاعده، ولكننا وجدنا عند تعديل القوانين وبخاصة إدخال المادة (23) مكرر على قانون التقاعد، أن الحكومة قامت بوضع يدها على العشرين سنة الأولى من عمل المواطن، وحرمته من الحصول على حقوقه المثبتة بالقوانين، وما عملته الحكومة من تعديل في القوانين يخالف روح الدستور القطري، وبخاصة ما ذكر بأن أي تعديلات "يكون الغرض منها منح مزيد من الحقوق والضمانات لصالح المواطن"، وذكرنا أنه ليس من الإنصاف ولا من العدالة أن تتم مصادرة مكافأة نهاية الخدمة، والقضاء القطري أيد هذه الحقوق للمواطن وأصدر أحكاماً تؤيد أن حقوق المواطن قد انتهكت، وأن الحكومة ملزمة بدفع مكافأة نهاية الخدمة.
وفي المقالة الثالثة "المتقاعدون وبدل السكن" (انظر الشرق 12/7/2020)، ذكرنا أن إلغاء بدل السكن هو من الأمور الصعبة التي تواجه المتقاعد، فهو يخسر من جهة البدل النقدي لمواجهة مصروفات البيت المتعاظمة بسبب الغلاء الفاحش، ومن جهة أخرى يستمر في دفع أقساط قرض البيت بفوائدها، من معاشه التقاعدي "المنتف"، وذكرنا أن الطامة الكبرى تقع على الموظف المستفيد من نظام الإسكان الحكومي، فإنه تطلب منه المغادرة من مسكنه ليبحث له عن مسكن بالإيجار، وبه سيضطر إلى دفع الإيجار من معاشه المتواضع الذي يستلمه بعد التقاعد، والذي يقدر بأكثر من 50 % من المعاش، وذكرنا أنه من حق المواطن على الحكومة، وليس على صندوق المعاشات، أن تكرمه بعد تلك السنوات الطوال من العطاء، وأن تقول له "هذا تكريم لك بعد أن تقدمت في السن".
بالرجوع لموقع الهيئة العامة للتقاعد والتأمينات الاجتماعية في الإنترنت وجدنا أن هدفها هو "تأمين الحياة الكريمة لأصحاب المعاش والمستحقين عنهم"، ولكنها لا تملك القدرة، ولا القوة القانونية، لتحقيق ذلك الهدف النبيل، فكل المواد القانونية التي كانت تعطيها القوة تم إلغاؤها بالمرسوم بقانون رقم (18) لسنة 2009 بشأن إلغاء بعض القوانين، فالهيئة قد تم تجريدها حتى من اقتراح زيادة المعاشات، وأيضاً جُردت من إمكانية منح معاشات استثنائية، أو زيادة كل أو بعض المعاشات المستحقة، وبه أصبحت الهيئة فقط مشرفاً على صندوق تلقي الاشتراكات، ومشرفاً على دفع المعاشات الشهرية، يعني بعبارة أخرى لا تنتظروا يا متقاعدون أي خير يأتيكم من الهيئة بصفتها الحالية.
وهنا يبرز السؤال الاستفساري الموجه للحكومة: لماذا قامت الدولة بضخ المليارات لمساعدة القطاع المصرفي (مثلما حدث في 2008) وفرض تأجيل الأقساط وفوائدها للشركات القطرية (مثلما حدث في فترة كورونا)؟ طبعاً سيكون الجواب هو أنه تم الدفع كمحفزات مالية واقتصادية، ولتوفير كافة سبل الدعم الممكنة للقطاع الخاص، ولإنعاش الاقتصاد المحلي، وحمايته من تبعات الأزمة المالية، وفيروس كورونا. يعني كل الدعم كان موجهاً للشركات لتوفير المواد التي يرغب فيها جمهور المستهلكين، وهذا شيء طيب، لكن هذا الجمهور الاستهلاكي، ولنقص السيولة النقدية لديه، قام باتجاه معاكس لما تريده الدولة، فأصبح لا ينفق إلا على المواد الضرورية، مما أدى لحالة من الانكماش والكساد الذي لم يسلم منه أي قطاع من القطاعات المختلفة، لأن الشخص وببساطة لا يجد النقود التي يشتري بها السلع، أما لو تم الدفع للمواطنين، بأي شكل من الأشكال، عندها يستطيع هذا المواطن القيام بالشراء، يعني أن المواطن سيسلم هذه المبالغ للشركات مقابل السلع والخدمات، وهذه بدورها ستذهب للبنك من خلال الشركات، وبه تتحقق دورة كاملة لرأس المال، وسوف يستفيد الجميع من مواطنين وتجار وبنوك.
الدول الغربية، وأمريكا، وكندا، وحتى دول آسيوية، فهموا هذه الحقيقة، لهذا نجدهم في فترة أزمة كورونا، وحتى يحافظوا على اقتصادهم من الانكماش، كانوا يرسلون أموال الدعم للأفراد، لكل شخص، أو لكل أسرة.
وفي الختام نقول إن المتقاعد الذي تآكل معاشه بالزمن، أو بغلاء المعيشة، لن يساهم في الاقتصاد لأنه لا يجد شيئاً من أرزاق يستطيع الإنفاق منها، وسيعاني الاقتصاد من الكساد الذي سيؤثر سلباً على كل الأنشطة، وحتى تكتمل الدورة الاقتصادية، وتكتمل معها دورة رأس المال، فمن المهم أن تمد الحكومة يدها للمتقاعد حتى يستطيع هذا المتقاعد أن يمد يده لرفع شأن الاقتصاد المحلي، وكلكم تعلمون أن المواطن لن يرسل أمواله للخارج بل سينفقها محلياً، يعني ما فيه شيء ضائع.
والله من وراء القصد،،
m.kubaisi@gmail.com
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6300
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3786
| 21 أكتوبر 2025