رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
شهدت الرياضة في العقود الماضية تطورا كبيرا، حيث أصبحت الرياضة صناعة قائمة بحد ذاتها وباتت تلعب دورا رئيسيا في اقتصاديات العديد من الدول، الأمر الذي أدى إلى التنافس الدولي على استضافة الأحداث الرياضية الدولية لما لها من أثر مهم في جذب الاستثمارات وتنشيط حركة السياحة والتجارة والاقتصاد. وفي بدايات الثمانينات من القرن الماضي، كثرت النزاعات الرياضية لاسيما المنازعات المتعلقة بالمجال الرياضي الدولي، ولا يوجد آنذاك آلية أو منظومة دولية مختصّة ومستقلة لتسوية النزاعات الرياضية بقرارات ملزمة، وكثرت الدعوات لإنشاء جهة دولية محايدة ومستقلة ومختصّة لتسوية المنازعات المتعلقة بالرياضة بعيدا عن أروقة المحاكم الوطنية، مما حدا باللجنة الأولمبية الدولية إلى إنشاء محكمة التحكيم الرياضي والتي تعرف اختصارا باللغة الإنجليزية بمسمى (كاس) لتسوية النزاعات الرياضية بواسطة التحكيم وذلك في عام 1984.
ويوجد المقر الرئيس للمحكمة في سويسرا في مدينة لوزان، كما يوجد للمحكمة مقر للاستماع في مدينتي نيويورك بـالولايات المتحدة وسيدني بـأستراليا، فضلا عن مقر مؤقت يجري إنشاؤه في المدن المستضيفة للأحداث الرياضية الدولية خلال فترة إقامة الحدث الرياضي.
وقد ثار موضوع استقلالية المحكمة في النزاعات التي تكون اللجنة الأولمبية الدولية أحد أطرافها، حيث تعرّض أحد الأحكام التي أصدرتها المحكمة الفدرالية السويسرية في عام 1993 بشكل غير مباشر إلى هذا الموضوع، وأشار إلى أن العلاقة القائمة بين محكمة التحكيم الرياضي واللجنة الأولمبية الدولية قد يؤثر على استقلالية وحياد الأخيرة في حال عرض نزاع عليها وكانت اللجنة الأولمبية الدولية أحد طرفيه، باعتبار أن اللجنة الأولمبية هي المموّل الوحيد للمحكمة وهي صاحبة الاختصاص بتعديل القانون المنشئ للمحكمة واختصاصاتها.
وبناء على ذلك، تم مراجعة قانون المحكمة وتعديله في عام 1994 لغايات جعل هيكل المحكمة أكثر استقلالية وحيادية عن اللجنة الأولمبية الدولية، حيث تم إنشاء المجلس الدولي للتحكيم الرياضي للقيام بدور الإشراف على أعمال وتمويل محكمة التحكيم الرياضي عوضا عن اللجنة الأولمبية. ومن أهم التعديلات التي طرأت أيضا على القانون هو انشاء قسمين في هيكل المحكمة: يسمى القسم الأول بدائرة منازعات التحكيم العادي ويختص بالفصل في المنازعات الرياضية العادية وفقا لإجراءات التحكيم العادية، أما القسم الثاني فيسمى بالقسم الاستئنافي، ويختص بنظر المنازعات الرياضية المتعلقة بالقرارات التي تتخذها الاتحادات أو المؤسسات او المنظمات الرياضية. وقد تم اعتماد التعديلات والإصلاحات التي طرأت على قانون محكمة التحكيم من قبل اللجنة الأولمبية الدولية، ورابطة الاتحادات الرياضية الدولية للألعاب الأولمبية الصيفية، ورابطة اتحادات الرياضات الشتوية الدولية، واتحاد اللجان الأولمبية الوطنية بتاريخ 22 يونيو 1994 وبعد أن تم التوقيع على اتفاقية بهذا الخصوص والتي تعرف باسم اتفاقية باريس لعام 1994.
وقد أكّدت المحكمة الفدرالية السويسرية في أحد أحكامها الصادر في عام 2003، والذي كانت فيه اللجنة الأولمبية الدولية أحد أطرافه، على استقلالية محكمة التحكيم الرياضي في هيكلها الحالي عن اللجنة الأولمبية وبأنها لم تعد تابعة لها. ويعد هذا الحكم بمثابة الاعتراف بمكانة واستقلالية وصلاحيات محكمة التحكيم الرياضي في مجال التحكيم الرياضي.
ولقد اعترفت كافة الاتحادات الدولية وجميع اللجان الأولمبية المحلية والقارية باختصاص وولاية وصلاحيات محكمة التحكيم الرياضي في حل المنازعات الرياضية، حيث قامت تلك الاتحادات بتضمين اتفاق التحكيم في قوانينها ولوائحها لإحالة أي نزاع ينشأ فيما بينها والغير إلى التحكيم وفقا لإجراءات التحكيم المعمول بها في محكمة التحكيم الرياضي. بالإضافة إلى ذلك أجبرت الاتحادات الدولية الاتحادات المحلية التابعة لها على تضمين شرط التحكيم في لوائحها لتسوية أي نزاع في المجال الرياضي وفقا لإجراءات التحكيم المعمول بها في محكمة التحكيم الرياضي عوضا عن اللّجوء للقضاء الوطني.
وتخضع إجراءات التحكيم في محكمة التحكيم الرياضي لمدونة الرياضة المتعلق بالتحكيم المعمول بها في المحكمة. ويشترط لانعقاد الاختصاص التحكيمي للمحكمة وفقا لإجراءات التحكيم العادية أن يكون هناك اتفاق تحكيم بين الطرفين المتنازعين على تسوية أي نزاع قد ينشأ فيما بينهم من خلال التحكيم وفقا لقانون وإجراءات محكمة التحكيم الرياضي.
وتبدأ الإجراءات في هذا النوع غالبا بحث الأطراف المتنازعة على حل النزاع بالطرق الودية من خلال الوساطة، وإذا لم تثمر تلك الطرق إلى تسوية النزاع، فتبدأ عندئذ إجراءات التحكيم.
وهناك إجراءات أخرى للتحكيم في محكمة التحكيم الرياضي تعرف بإجراءات التحكيم الاستئنافي. وتنظم هذه الإجراءات تسوية المنازعات الخاصّة بالقرارات الصادرة عن الاتحادات والمنظّمات الرياضيّة الدولية والمحلية، شريطة أن تكون اللّوائح المعمول بها في تلك الاتحادات والمنظّمات الرياضيّة تجيز استئناف قراراتها أمام محكمة التحكيم الرياضي والتي لها صلاحيات إلغاء القرارات المُتظلّم منها كليًا أو جزئيًا أو استبدالها بقرارات جديدة.
وكما يوجد هناك أيضا إجراءات سريعة خاصة بالتحكيم الاستئنافي لتسوية المنازعات التي تحدث خلال الأحداث والفاعليات الرياضية الكبرى مثل بطولة كأس العالم الفيفا ودورات الألعاب الأولمبية، حيث تكون هناك لجنة من المحكمين في مكان الحدث وجاهزة لسماع أي نزاع يتعلق بالطعن في أي قرار تم اتخاذه من قبل الجهة المنظمة للحدث الرياضي، بل وإصدار الحكم فيه خلال 24 ساعة.
كذلك، تقدم محكمة التحكيم الرياضي فتاوى غير ملزمة بشأن بعض المسائل المتعلقة بالرياضة بناءً على طلب من اللجان الأولمبية الدولية أو الاتحادات الرياضية الدولية.
وتكون مدة التحكيم لإصدار الحكم المنهي للخصومة وفقا لإجراءات التحكيم العادية ما بين 6 إلى 12 شهرا، أما في حال التحكيم وفقا لإجراءات التحكيم الاستئنافي، فتكون مدة التحكيم لإصدار الحكم المنهي للخصومة خلال 3 أشهر من تاريخ إحالة ملف النزاع إلى هيئة التحكيم. ويكون لمحكمة التحكيم الرياضي أن تأمر باتخاذ التدابير الوقتية والتحفظية المناسبة للحفاظ على حقوق أحد الأطراف وذلك في الحالات التي قد تؤدي إلى وقوع ضرر لا يمكن تفاديه فيما بعد.
وقد ألزم الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا الاتحادات الوطنية بإنشاء هيئات تحكيم وطنية تفصل في المنازعات الرياضية قبل اللجوء إلى محكمة التحكيم الرياضي، حيث تنص المادة (67/2) من النظام الأساسي للاتحاد الدولية لكرة القدم على أنه لا يجوز اللجوء لمحكمة التحكيم الرياضي إلا بعد استنفاد كافة طرق التسوية الداخلية.
وقد وضعت بعض الاتحادات الدولية آليات خاصة فيها لتسوية النزاعات الرياضة قبل إمكانية اللجوء إلى محكمة التحكيم الرياضي. فعلى سبيل المثال، فقد قام الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا بإنشاء عدة لجان للفصل في المنازعات الرياضية المتعلقة بالاتحاد مثل: لجنة الانضباط ولجنة الاستئناف ولجنة الاخلاق وغرفة فض المنازعات.
ولقد نص النظام الأساسي للاتحاد القطري لكرة القدم على أن من شروط العضوية بالاتحاد هو إقرار واعتراف مقدم الطلب بهيئة التحكيم التابعة للاتحاد القطري في محكمة التحكيم الرياضية. ويستثني النظام الأساسي للاتحاد بعض النزاعات من عرضها على محكمة التحكيم الرياضي بصفتها الاستئنافية والتي تتعلق بالمخالفات لقوانين اللعبة أو الإيقاف لما يصل إلى أربع مباريات أو لما يصل إلى ثلاثة أشهر، أو بالنسبة إلى القرارات الصادرة من قبل هيئة تحكيم مستقلة ومشكلة بصورة صحيحة من قبل اتحاد أهلي أو اتحاد قاري.
وتجدر الإشارة إلى أنه قد تم إنشاء مؤسسة قطر للتحكيم الرياضي لتسوية المنازعات الرياضة الخاصة بكرة القدم عن طريق التحكيم والوساطة. وتتألف المؤسسة من قسم التحكيم العادي وتختص بالفصل في المنازعات الرياضية العادية، وقسم التحكيم بالاستئناف، وتختص بنظر قرارات الجهات الخاصة بلعبة كرة القدم شريطة ان تنص اللوائح الخاصة بتلك الجهات في الدولة.
وسوف تكون مؤسسة قطر للتحكيم الرياضي مقرا لهيئات ومحكمي محكمة التحكيم الرياضي خلال منافسات كأس العالم فيفا قطر 2022 التي تستضيفها دولة قطر بتاريخ 20 نوفمبر 2022.
وقد أبرمت مؤسسة قطر للتحكيم الرياضي مذكرة تفاهم مع محكمة قطر الدولية للتعاون وتبادل الخبرات واستخدام مرافق محكمة قطر الدولية لعقد الجلسات في القضايا الرياضية.
ونرى بأنه من الأهمية بمكان تعزيز الوعي القانوني لدى الرياضيين المحترفين والأندية الرياضية والاتحادات المحلية بالدور المهم الذي تقوم به محكمة التحكيم الرياضي لتسوية النزاعات الرياضية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6708
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2781
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2454
| 30 أكتوبر 2025