رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
جرأة صالح على الكذب والتنصل لا تضاهيها إلا عدمية أولئك الذين مازالوا حوله حملة مباخر وأتباع ضلال مبين.
كان حكم صالح تاريخا من التملص والتبرؤ من المسؤولية وعدم الاعتراف.
يحتاج المرء للكثير من الحذق والنباهة كي يضلل ويزيف الحقائق والوقائع على هذا النحو ويتطلب العقل مستوى من الاحترام كي ينخدع ويمرر ويتقبل ما يقال.
يكرر صالح القول إن الصراع مع الحوثيين كان مجرد "خلاف سياسي وإداري " وذلك لتبرير تحالفهما الشيطاني الأخير في الانقلاب على الشرعية وإعلان الحرب.
هذا القول ذروة الخيانة والإهانة لليمن واليمنيين يصرح به صالح في كل مناسبة دون تحفظ ولا مراعاة وببجاحة تجاوز قدرتنا على التحمل.
يتنصل صالح ببساطة من ست حروب طاحنة هو من اتخذ قرار خوضها جولة بعد أخرى ودفع بالجيش إلى محارقها الممتدة بمبرر الدفاع عن الجمهورية وحماية البلاد من المد الصفوي الإيراني وهو من عمل منذ البدء على تأطير تلك الحرب ضمن أبعاد وطنية لإضفاء المشروعية عليها رغم عجزه عن تجييش أحزاب المعارضة وقطاعات واسعة من المجتمع معه حيث كانت مخاوف القوى الوطنية من انزلاق البلد إلى حرب أهلية تجعل بقاءها ضد الحرب كقوة وازنة ووسيطة في مراحل لاحقة أمرا غاية في الأهمية.
كانت حربا غامضة ملتبسة عصية على الفهم والحسم لم يزل صالح يؤكد خلالها "أن الحوثيين حركة مسلحة لها ارتباطات خارجية وتهدف للانقلاب على النظام الجمهوري وإعادة حكم الإمامة"، وهذا ما كان يؤكده الخطاب العام لنظام صالح عموما طوال سني الحرب المتلاحقة.
كان صالح رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة اعلى سلطة في البلاد ولا يملك أحد اتخاذ قرار الحرب سواه، خطبه وتصريحاته طوال سنوات الحرب محفوظة تحمله المسؤولية وتفضح تنصله وخيانته لدماء وجراحات من ضحوا وقاتلوا تحت إمرته وبأمر منه.
أكثر من ستين ألف قتيل من ضباط وجنود القوات المسلحة ومثلهم جرحى ومعاقون وآلاف الضحايا من المدنيين يتخلى صالح عنهم ويسلبهم شرف ومجد التضحية والبطولة لمجرد أنه أرغم على التخلي عن الحكم.
أتساءل كيف يمكن لعسكريين تم إذلال قادتهم ورفاقهم في السلاح واستباحة دمائهم وتبخيس كفاحهم والالتفاف عليهم والتبرؤ منهم، كيف يمكن لعسكريين تم الغدر برفاقهم من قبل الرجل الأول المسؤول عن القوات المسلحة، كيف لهم أن يستمروا في القتال معه ضد أهليهم وبلادهم وقد غادر منصبه وصار زعيم عصابة كبيرا؟ لا يمكن حدوث ذلك إلا حين يصير أولئك العسكريون مجرد مرتزقة ورجال عصابات
خلاف سياسي وإداري يستحق كل تلك الدماء والمآسي والأحزان والويلات التي عاشتها اليمن طوال دورات الحرب؟
يستمر الرجل في تبسيط جرائمه وكوارثه ويواصل عروضه الهزلية الأخيرة الساخرة بما تبقى له من عناد وعتاد ومال وقطيع مسلح.
كان على الدوام مستعدا للتنصل والهرب وخذلان جنوده وكسر انتصاراتهم بتواطئاته وصفقاته المريبة ولم يكن ليتردد عن وضع قادات جيشه أهدافا لعدوهم في ساحات المعركة وتحميلهم أعباءها كاملة لتغدو حرب فلان وعلان وحرب مذهب ومذهب وحزب وطائفة وجهات ومناطق.
لم يسمح بانتصار الجيش ولا بهزيمة الحوثيين فخرجوا أكثر انتفاشا وصلفا وتماديا وغرورا في تعاملهم مع الجميع وكانوا من أدوات إجهاض التغيير وتفجر الأوضاع عموما وانتهى بهم الحال للدخول مع صالح في حلف انقلابي مدمر في مآل يكشف الكثير من أسرار تلك العلاقة الغامضة التي جمعت الطرفين منذ سنوات الحرب الباكرة.
في السياسة يمكن تفهم التغير في المواقف سلبا وإيجابا وتغير التحالفات كدلالات مرونة ونضج وربما نتاج مراجعات أو استجابة لمقتضيات الضرورة والمصلحة، غير أنها تظل محكومة بشروط العمل السياسي وبالمشروعية الدستورية والقانونية ومشروطة بالالتزامات الأخلاقية والوطنية،
لا تحالفات على الشر والعدوان، لا توافقات على الحرب ضد المشروعية، لا شراكة في الانقلاب على الدولة وتحويل حياة الملايين إلى جحيم، هذا حلف خياني موصوم آثم لا يمكن تبريره على الإطلاق،
أكثر شيء يُحَسِّنه صالح التنصل لم يكن يوما وفيا لسواه ولغير مصالحه الخاصة ومصالح أدواته ومجموعات الفساد حوله.
تنصل طويلا من الإصلاحات والوفاء بمطالب التغيير، تنصل من كل الوعود التي ظل يصرفها بسخاء شمالا وجنوبا حتى وجد نفسه أمام لحظة الحقيقة في مواجهة كل الاستحقاقات المؤجلة والمرحلة والمتنصل منها بإصرار هذا الرجل سجننا طويلا في شخصه وأنهكنا في ملاحقته وبدد أعمارنا في إحصاء سيئاته وسوءاته وقد اقتضت الثورة خلعه من وعينا وأفكارنا وخطابنا وحياتنا كي لا يواصل سيطرته واستحواذه علينا طويلا.
ثمة ضحايا كثر لـ صالح ما زالوا عالقين في دائرة القهر مشدودين لقاهرهم ويحتاجون لأن يتعافوا ويعاد تأهيلهم من جديد كمواطنين أحرار لا يمكن استغلالهم وحشدهم مع جلاديهم ضد أنفسهم ومصالحهم وحقوقهم وحرياتهم وقضاياهم العادلة، التحرر من السجن ومغادرة السجان عملية أولية مهمة تتطلب الكثير من اليقظة والجهد.
من حق الرجل أن يطيل التشبث بالحياة وأن يستمر في الخصم من نفوسنا لصالحه مادمنا أقل تشبثا منه بالحياة ومادام هنالك من يسترخص روحه مقابل الفتات.
يسأل صديقي باكتئاب حاد:
"لا أدري كيف ستتخلص اليمن من هذا الوباء الذي اسمه صالح؟ مضيفا "لا أشعر بالانزعاج مما يمارسه هو رغم كارثيته لأن هناك الآن من يواجهه"، " لكنني أشعر دائما بإرهاق شديد بل بألم من أفكار معارضيه، صالح بكل تفاهته بلا معارضين"
ما هو واضح أن الرجل سيواصل التصرف كما اعتاد طوال ٣٣ سنة ولن يقبل التنصل من أداء دور الزعيم ولن يرض بحليفه سوى أداة وحامل وزر وغطاء فهما مشروعا إمامة لا يمكن لأحدهما إلا أن ينفي الآخر.
ويظل السؤال: ترى أي الحليفين يسبق في التنصل؟
 زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
            
            زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
            الهوينا كان يمشي، هنا فوق رمشي، اقتلوه بهدوءٍ، وأنا أهديه نعشي...... صدق القائل ومِنَ الحُبِ ما قَتل، هذا... اقرأ المزيد
63
| 31 أكتوبر 2025
 بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
            
            بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
            تُعتبر الأسرة الخلية الأولى في المجتمع وأحد أهم العوامل المؤثرة في بناء شخصية الطفل، حيث تُسهم في تكوين... اقرأ المزيد
93
| 31 أكتوبر 2025
 الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
            
            الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
            ظهرت للأسف من قبل أخصائيين غير مدربين على كفاءة وضمير مهني التجارة بمسمى العلاج وعدم الإدراك والفهم والوعي... اقرأ المزيد
42
| 31 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6621
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6489
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2670
| 28 أكتوبر 2025
