رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

حسن توفيق

حسن توفيق

مساحة إعلانية

مقالات

619

حسن توفيق

شعراء يهربون وآخرون يواجهون

01 أغسطس 2013 , 12:00ص

من الشعراء من يواجهون الواقع مواجهة المتخاذلين أمامه، ومنهم من يواجهونه مواجهة المتجاوزين له. فالأولون يهربون من هذا الواقع عن طريق خلق عوالم مثالية ينعمون فيها بالفراديس الوهمية التي تتمثل غالباً في الارتداد إلى الماضي وأطيافه، وهذا ما يستتبع – بطبيعة الحال – النكوص إلى الوراء. أما الآخرون فإنهم يتطلعون كذلك إلى خلق عوالم مثالية، لكن هذه العوالم تتمثل في استشراف آفاق مستقبل إنساني ينعم فيه البشر بدنيا جديدة تتخطى عثرات الواقع وتتجاوزه مبتعدة عن نقائصه.

وبطبيعة الحال، فإن الشعراء يختلفون - من شاعر إلى آخر – في كيفية مواجهتهم للواقع، وفقاً لنوعية العوامل الإنسانية المتشابكة التي تسهم إسهاماً كبيراً في تكوين شخصية كل منهم، وتشكيل أسلوب تفكيره الذي يقوده - بالتالي – إلى اتخاذ هذا الموقف دون ذاك تجاه قضية بعينها من القضايا التي يجد الشاعر أنه مطالب بأن يتخذ منها موقفاً معيناً، أياً كان هذا الموقف، بحكم كونه شخصية من الشخصيات العامة المؤثرة في مجتمعها الذي تعيش فيه، وفي عصرها المضطرب الذي تتجاذبه شتى التيارات، وتتصارع فيه شتى التناقضات.

ولكي تتضح الصورة، فإنه بوسعنا أن نتخذ الشاعر الأمريكي الكبير ت. س. إليوت مثالاً للشعراء الذين يواجهون الواقع مواجهة المتخاذلين أمامه، وأن نتخذ الشاعر الألماني الكبير برتولت بريخت مثالاً للشعراء الذين يواجهونه مواجهة المتجاوزين له.

إن المدنية الأوروبية الحديثة قد أفزعت ت. س. إليوت.. أفزعته بضجيج آلاتها التي لا تكف عن الحركة، فتفسد بضجيجها كل التأملات الميتافيزيقية والشطحات الصوفية، وأفزعته بأناسها الذين حشيت رؤوسهم بالقش، فغلبوا المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، واندفعوا متزاحمين في شتى مناحي الحياة. يفكر كل منهم في ذاته فحسب، دون أن يشغل نفسه بالآخرين إلا إذا تحققت له من وراء هذا منفعة مادية ملموسة.

وبدافع الفزع من المدنية الأوروبية الحديثة الذي اعترى إليوت، فإنه أولاها ظهره، بعد أن صورها في هيئة سهل مقفر لا أمل يرتجى منه، وجلس الشاعر وحيداً على شاطئ الغيب، بعيداً عن السهل المقفر، ينشد الخلاص بالعودة إلى حظيرة الدين، منقباً عن المثل العليا والمبادئ السامية التي كانت سائدة في العصور الخوالي، وحلق الشاعر في آفاق شطحاته الصوفية، بعد أن تصور أن جسر لندن – الذي يمثل المدنية الأوروبية في نظره – قد انهار تماما.

أما برتولت بريخت، فإنه وإن كان قد فزع – هو الآخر – من مظاهر التفسخ في المدنية الأوروبية الحديثة، إلا أنه لم يولها ظهره مرتداً إلى العصور الخوالي بقيمها ومثلها التي كانت تتفق معها وحدها دون غيرها من العصور، وإنما حاول تشخيص العلل والأدواء التي انتابت تلك المدنية، كما أبرز نقائص المجتمع الرأسمالي، مطالباً – في شعره – بتقويضه من أساسه، لكي تزدهر رؤوس الناس بالفكر الحر بدلا من أن تظل محشوة بالقش، فيفكر كل فرد منهم – بالتالي – في ذاته وفي الآخرين أيضاً، حيث «يصبح الإنسان صديقاً للإنسان»، وما من شك في أن فجر هذا العالم الجديد لن يطلع إلا إذا قضى على الحقد المتولد من استغلال الإنسان للإنسان، وذلك ما تحققه الثورة ضد الظلم، لكن هذه الثورة لا تتحقق تلقائيا، وإنما تندلع كالبركان أو تندفع كالطوفان حين يشعر الإنسان بوطأة الظلم، وبأن عليه أن يواجهه بصورة حاسمة.

مساحة إعلانية