رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قرعت الأنباء أُذني أبي ذر الغفاري، بظهور رجل بمكة، يزعم أنه نبي، ويدعو إلى عبادة الله وحدَه، وعدم الإشراك به، وقد كان أبو ذر رجلا ممن أنفوا التعبد للأوثان في الجاهلية، واعتقدوا بوجود الله العظيم، خالق كل شيء سبحانه، فلم يكد يسمع بتلك الأنباء حتى أراد أن يعلم ما هو خبر ذلك الرجل النبي، وما هي دعوته.. وأراد أن يستوثق من حقيقة الأمر، ويكون على بينة منه، فطلب إلى أخيه أُنيس أن يذهب إلى مكة ليأتيه بالخبر اليقين، ولا يبطئن ولا يشعرن به أحداً، فقال أنيس لأخيه أبي ذر: لبيك يا أخي. وانطلق صَوْب مكة ليعلمَ له خبر محمد عليه الصلاة والسلام، حتى بلغها ومكث فيها قليلا، يستقصي الأخبار، وما لبث أن عاد مسرعا إلى أخيه، فلما رآه أبو ذر قال: ما عندك؟ قال: والله لقد رأيت رجلا، يأمر بالخير، وينهى عن الشر، ويدعو إلى مكارم الأخلاق. ولكن أبا ذر قال: لم تشفني من الخبر.
فرأى أن يذهب هو بنفسه إلى مكة، وأعد راحلته، واحتمل قطع البيد، ومشقة الرحيل إلى أن قدم مكة، ودخلها وأراد في نفسه ألا يعلم أحد سبب مقدمه، فأخفى حاجته، ولم يأخذ في السؤال عن رسول الله، حتى يبدو له الأمر بنفسه ويظهر له، وكان أبو ذر في أثناء إقامته يشرب من ماء زمزم، لا يدخل جوفه شيء سواه فكان فيه كل الغَناء، وجعل يجلس في المسجد الحرام، فمر به يوما علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال له: كأن الرجلَ غريب. قال: نعم. فاستدعاه علي من ثم إلى منزله وأضافه ثلاثة أيام، لا يسأل أحدهما صاحبه عن شيء، وفي اليوم الثالث قال علي لأبي ذر: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: إنْ كتمت علي أخبرتك. قال علي: فإني أفعل. فأنشأ أبو ذر يقول: بلغنا أنه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليعرف خبره، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. قال علي: أمَا إنك قد رَشَدت، هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل، وإني إن رأيت أحداً أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامضِ أنت.
فمضى علي ومعه أبو ذر، حتى دخلا على النبي عليه الصلاة والسلام، فطلب أبو ذر منه أن يعرض عليه الإسلام، فعرضه وما أبطأ أن أسلم أبو ذر، ثم قال له رسول الله "يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل"، قال: والذي بعثك بالحق، لأصرخنّ بها بين أظهرهم، فجاء إلى الكعبة وحولها قريش، فقال بأعلى صوته: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقال القوم: قوموا إلى هذا الصابئ، فقاموا إليه وأوسعوه ضربا، وكان قريبا من هذا المشهد، العباس عم النبي، فأقبل وأدرك أبا ذر، قائلا لقريش ليكفوا عن ضربه: ويلكم، تقتلون رجلا من غِفار، ومتجركم وممركم على غفار. فأقلعوا عنه وتركوه، وفي الغد عاد أبو ذر إلى مثل ما قال بالأمس، فكان من قريش مثل فعلهم الأول، وكان من العباس أيضا، مثل فعله أول مرة.
ذلك هو أبو ذر، رضي الله عنه، منذ أن أسلم، لا يخشى ولا يبالي شيئا أبدا في سبيل الجهر بالحق والصدق، وإن كان فيه ذهاب نفسه، فاستحق لذلك، أن يقول فيه رسول الله "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدقَ لهجةً من أبي ذر".
عاد أبو ذر من بعدُ إلى قومه وبلده، كما أمره النبي، وجعل هناك يدعو عشيرته، وأبناء غفار جميعا إلى ما تدعو إليه مبادئ الإسلام وأصوله، من مكارم الأخلاق والفضائل مما يرتكز عليه الدين، حتى أخذ نور الإسلام ينتشر وينير العقول، فأسلم الكثير منهم رجالا ونساء، ثم انتقل أبو ذر إلى قبيلة (أسلم)، المجاورة لهم، وكان أن رددوا صدى نداء الإسلام بأفئدتهم وأسلموا كما أسلمت غفار.
في يوم من الأيام بعد واقعة الخندق، أزمع أبو ذر الهجرة إلى المدينة، بعد أن ظهر فيها أمر الإسلام، وصار للمسلمين دولة وكيان، منفذا وصية رسول الله له يوم إسلامه، وسار معه من أسلم من قبيلتي غفار وأسلم، وقدموا جميعا في جمع غفير على النبي، فلما رأى عليه الصلاة والسلام، أبا ذر، روي أنه وَهِمَ في اسمه فقال: أنت أبو نملة. فقال له: أنا أبو ذر، يا رسول الله. فقال: نعم، أبو ذر. ولعل النبي أحب مداعبته فيما قاله، والذَّر معروف أنه صغار النمل. ثم ألقى رسول الله نظرة على وفود غفار وأسلم، مملوءة بالرحمة والعطف لهم، والرضا والشكر لله، وقال داعيا لهم "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله". ولقد كانت أيضا لرسول الله نظرةٌ ملهَمة بوحي السماء توجه بها إلى أبي ذر، استشف من خلالها طبيعة نفس أبي ذر، وعلم الصفة التي ستحكم حياته في الإسلام ويحيا عليها إلى أن يلقى وجه ربه الكريم، ألا وهي صفة الزهد، فكان أن قال عليه الصلاة والسلام "أبو ذر في أمتي، على زهد عيسى بن مريم"، ولقد تحقق هذا القول، وصَدُق أيَّ صدق في حياة أبي ذر، فلم تلهه الدنيا بزينتها وزخارفها، ولم تفتنه بمظاهرها ومباهجها، فيتغير من ثم ويغتر، بل عاش حياته في حدود معنى الزهد، داعيا إلى فكرته، معلنا الحرب المستعرة على طغيان حب المادة والمال، وتطاول معاني الترف والثراء. كان يرى أن خير الناس هم الزاهدون، وأن يوم فقر الإنسان الحقيقي، هو يوم يوضع في القبر، كما يرى أن كثرة المال تستلزم وتستوجب شدة الحساب، فمن أقواله: ذو الدرهمين أشد حسابا من ذي الدرهم. وكان عنده أن في الأموال ثلاثةَ شركاء، هم كما قال: القدر: لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرها، من هلاك أو موت. والوارث: ينتظر أن تضع رأسك، ثم يستاقها وأنت ذميم. وأنت الثالث: فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة، فلا تكونن، فإن الله عز وجل يقول (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
يرحم الله أبا ذر
لما دنا أجله كان إلى جواره زوجه وهي تبكي بكاءً شديداً على زوجها الذي يموت وليس عنده كفن يسعه، فقال مهونا عليها «لا تبكي، فإني سمعت رسول الله، ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه، يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض، تشهده عصابة من المؤمنين، وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبقَ منهم غيري، وهأنذا بالفلاة أموت، فراقبي الطريق فستطلع علينا عصابة من المؤمنين»، ثم فاضت روحه إلى الله، وسمت إلى عليين. فأطلت زوجه على الطريق مترقبة قدوم أحد، فما لبثت طويلا أن رأت قافلة آتية من بعيد تشق غبار الفلاة، حتى وقفت عندها، وكانت تلك القافلة تضم نفرا من المؤمنين، منهم عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، الذي رأى امرأة وبجوارها جثمان مسجى، فأقبل ليرى ما شأنها، ثم نظر وجه الميْت، فإذا به يرى صاحبه وصديقه أبا ذر، فأجهش بالبكاء بدمع غزير وطفق يقبله، وتذكر مقولة سمعها يوما مع الصحابة، من رسول الله، في أبي ذر، وهي قوله عليه الصلاة والسلام «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحدَه، ويموت وحدَه، ويبعث وحده».
أبعد هذا الحديث قول يقال في حق أبي ذر، رضي الله عنه، أكبر منه وأعظم، هيهات هيهات، حقا إنه لرجل نسيج وَحْدِه.
Bien hecho España
مع احترامنا لجميع الدول التي ساندت أهل غزة والحكومات التي كانت تدين وتندد دائماً بسياسات إسرائيل الوحشية والإبادة... اقرأ المزيد
15
| 27 أكتوبر 2025
التوظيف السياسي للتصوف
لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح فارقا مهما بين شيئين: الأول هو «التصوف» الذي تختلف الناس... اقرأ المزيد
12
| 27 أكتوبر 2025
عن خيبة اللغة!
يحدث أحيانًا أن يجلس الكاتب أمام بياض الورق أو فراغ الشاشة كمن يقف في مفترق لا يعرف أي... اقرأ المزيد
18
| 27 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6315
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3804
| 21 أكتوبر 2025