رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

المهندس إبراهيم بن هاشم السادة

ialsada63@gmail.com

مساحة إعلانية

مقالات

204

المهندس إبراهيم بن هاشم السادة

أنماط القيادة في سورة الكهف... قراءة في لحظات التكوين

03 ديسمبر 2025 , 05:03ص

في أدبيات الإدارة الحديثة تُصنَّف القيادة في قوالب واضحة: قائد يُعيَّن بقرار، وآخر يُنتخب في أول اجتماع، وثالث يبرز تلقائياً حين تحتاج الجماعة إلى من يتقدم الصفوف، غير أن القرآن الكريم لا يكتفي بهذه التصنيفات، بل يأخذ القارئ إلى عمق اللحظة الإنسانية التي تُولَد فيها القيادة، وكيف تتشكل داخل الوعي قبل أن تتجسد في الألقاب.

في سورة الكهف على وجه الخصوص، نقف أمام أنماط قيادية فريدة، شبابٌ مطاردون بعقيدتهم، ونبيٌّ أراد أن ينهل العلم من عالم رباني، وملكٌ ممكَّن في الأرض يدير المشروعات الكبرى. ثلاث لوحات مختلفة، لكن الخيط الناظم بينها واحد: كيف يُصاغ القائد حين تُوضع الجماعة على حافة الاختبار، وكيف تصبح الفكرة نقطة البدء في كل مشروع قيادة ناجح. ففي المشهد الأول من سورة الكهف تتجلى لنا لحظة القيادة وهي تتكوّن داخل مجموعة صغيرة تواجه ضغطاً وجودياً قاسياً، فالخطر كان يحيط بالفتيان من كل جانب، ومع ذلك لم تتشتت كلمتهم، بل ظهر بينهم صوتٌ هادئ يقترح: «فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» اقتراح يتضمن رؤية واضحة، اختيار الملجأ المناسب، وضبط الإيقاع النفسي للجماعة، ووضع الثقة في موضعها الصحيح، هكذا وُلد القائد من داخل المجموعة، عندما أحسن قراءة الموقف فالتفّ حوله الجميع.

وفي مرحلة لاحقة من القصة، حين أذن الله لأصحاب الكهف أن يستيقظوا من لبثهم الطويل، يتجدد المشهد القيادي بصورة أعمق وأكثر نضجاً، فمع أنهم وجدوا أنفسهم في عالم تغيّر تماماً، بقي منهج اتخاذ القرار ثابتاً؛ إذ التفّوا حول التوجيه المختصر: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ…». قرار يحدّد المهمة، والشخص المناسب، والتنبيه الأمني اللازم: «وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا « إنها قيادة حكيمة هادئة، تعتمد العقل الجماعي، وتعرف أن أقلّ الخطوات قد تكون أعظمها أثراً، وأن الحفاظ على تماسك الفريق أولوية تعلو على كل اعتبار. ومن قصة أصحاب الكهف ننتقل إلى قيادة المعرفة في لقاء موسى عليه السلام بذلك الرجل الصالح الذي آتاه الله الرحمة وعلمه من لدنه علما، قال لموسى عليه السلام: « فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا «، وضع منهجاً كاملاً للتعلم يبدأ بضبطٍ للسؤال، وتنظيمٍ للمعرفة، وتأكيد أن الفهم العميق يحتاج إلى صبر ومساحة زمنية ينضج فيها الحدث قبل شرحه، وهكذا نرى لوناً من القيادة لا يوجّه السلوك فقط، بل يبني العقل الذي يفهم السلوك، ويربّي البصيرة على التمييز بين ظاهر الأشياء وحقيقتها.

ثم نصل إلى نموذج ذي القرنين، الذي تكشف قصته عن قيادة عملية تتجلى في تشكيل فرق العمل وتنظيمها، فحين طلب القوم منه بناء السد، شرع في بناء منظومة متعددة المراحل، ففريق يجمع الحديد، وفريق يشعل النار، وآخر يوفّر النحاس المصهور، فتحول المشروع إلى عمل جماعي يسير وفق رؤية واضحة، يشارك فيه الجميع ويعمل كل فريق ضمن دوره المحدد، إنها قيادة تُحسن جمع القدرات، وتوجيه الطاقات، وتحويل الحاجة العامة إلى ورشة عمل يصنع أهلها أمنهم واستقرارهم.

وبهذا تضع سورة الكهف أمام القارئ ثلاث صور متكاملة للقيادة: قيادة تنشأ من داخل الجماعة، وأخرى تُبنى على الحكمة والتربية، وثالثة تتجسد في العمل المنظم والمشاركة الفاعلة، وما بين الكهف والرحلة مع الخضر ومشروع السد، تتكشف لنا خيوط دقيقة تقول إن القيادة لحظة وعي؛ وقدرة على صياغة القرار المناسب في الوقت المناسب.

مساحة إعلانية