رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قدم المدينة المنورة ذات يوم، وفد من نصارى نجران، وأتَوْا مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، وهو جالس مع نفر من أصحابه، فلما استقروا في مجلسهم، جعل رسول الله، يعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم إلى الإيمان، ولكن القوم أبَوْا إلا أن يقيموا على دينهم، وقبل أن يهموا بالانصراف من عنده، ليرجعوا إلى ديارهم، سألوه أن يبعث معهم رجلا من أصحابه ليحكم بينهم، ويَفصل في أمور قد اختلفوا فيها، وتنازعوا عليهما، فقال لهم رسول الله: (لأبعثنّ إليكم رجلا، أمينا حَقَّ أمين، حق أمين- قالها ثلاثا- فائتوني العشيّة).
سمع الصحابة ممن كان في المجلس هذه المقالة، فودّ كل منهم أن يكون هو الأمين الذي يعنيه رسول الله، والذي سيبعثه مع وفد نجران، واستشرفت نفوسهم لهذا الثناء والتزكية:(حقَّ أمين، حق أمين)، من النبي الكريم، فإن ذلك عز وفخر لمن يظفر به ويناله، حتى إن عمر بن الخطاب، الفاروق- وكان حاضرا- قال: (ما أحببت الإمارة قط، حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها)، فراح عمر إلى صلاة الظهر مبكرا، فلما صلى بهم رسول الله، سلّم ثم أخذ ينظر عن يمينه وعن يساره، وهنا طفق عمر يتطاول، ويمدُّ عنقه حتى يراه رسول الله، الذي لم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه، وقال: (اخرج معهم فاقضِ بينهم بالحق، فيما اختلفوا فيه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح). هنالك غبط عمر أبا عبيدة، وجعل ينظر إليه بإعجاب وإكبار، ومن يومئذ عظم في عينه، وأحبه حبا كبيرا، كما سنعرف فيما يأتي معنا.
استمر أبو عبيدة بن الجراح أمينا على الأمة، يحمل أمانتها، بعد وفاة رسول الله، مثلما كان من قبل، يعمل مخلصا في عمله، ويجاهد متفانيا في جهاده، لا تفتر همته، يبذل في سبيل أمته كل ما تستطيعه يده، وتقوى عليه نفسه، محملا نفسه ما يطيق، وما لا يطيق، من أجل نصر دين الله، ورفع راية الإسلام، ومن أجل كرامة الأمة، ذلك هو فعل أبو عبيدة، وتلك هي روحه الطاهرة، فأكرِمْ به، وأعظِمْ من أمين، خليق بالأمانة جدير بها.
رأى عمر في خلافته أن يولي أبا عبيدة قيادة جيوش المسلمين في بلاد الشام، فسار الأمين بالجيش نحو الشام لملاقاة الأخطار التي تواجه مصير الإسلام هناك من أعدائه المتربصين بالمسلمين، وهناك أثبت بطولة وبسالة، فحقق الانتصارات التي ضربت قوى الروم وقضت عليها، وتقدم يمضي من انتصار إلى انتصار، وينتقل من نجاح إلى نجاح، حتى فتح الله على يده ديار الشام وحررها من اضطهاد الرومان، فشاع فيها نور الإيمان، فكان أهلها من ثم يعرفون له بلاءه هذا، وعرفوا من قبل منزلته الجليلة في الإسلام، منذ أن بعث الله رسوله، كما عرفوا أيضا مكانته عند أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، الذي ألقى إليه قيادة جيوش المسلمين، مفضلا إياه على من سواه من كبار القادة، وأبطال الحروب، عرف أهل الشام كل ذلك، فراحوا يطلقون عليه لقب (أمير الأمراء).
ما كاد يعلم أبو عبيدة بما يقوله الناس عنه من حديث المديح والتبجيل، وما إلى ذلك من الافتتان بشخصه، حتى وقف على جموعهم يقول لهم، وهو المؤمن التقي، والقائد المتواضع:(يا أيها الناس، إني مسلم من قريش، وما منكم من أحد، أحمرَ ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في إهابه). أجل، ذلك هو المعنى الذي يعلمه الأمين أبو عبيدة، حق العلم، وأخذ يعلمه الناس، من أن التقوى هي رأس الدين، وأصل المرء، وميزان التفاضل، بها يكرم العبد عند ربه.
في يوم من الأيام، زار أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، الشام فعلم الناس بمجيئه فأقبلوا يستقبلونه مرحبين به فرحين بزيارته، فرأوه يقلب بصره كأنما يبحث عن شيء، وإنه لكذلك، حتى سألهم: أين أخي؟ أين هو؟ فعجب الناس، وتساءلوا فيما بينهم: ألي أمير المؤمنين أخ معنا؟!. والله إنا لا نعلم أن له أخا ههنا، فتُرى من يعني، فلم يجدوا بدا من سؤاله: من أخوك يا أمير المؤمنين؟. فأجابهم عمر: أخي أبو عبيدة، عامر بن الجراح، فما لبث أن رآه آتيا يشق طريقه بين زحام الناس، فأقبل عمر عليه، واعتنقه باشتياق بالغ، وفرح شديد، ثم صحبه أبو عبيدة إلى داره، وما تُرى هي داره؟ وما تحويه من متاع وأثاث؟. تعالَوْا فلننظر؟
دخل عمر الدار، فلم ير فيها شيئا مما يقتنيه الناس، ويعيشون به، لم يجد سوى أدوات القتال والجهاد، من سيف وتُرس ونحو ذلك، وشيء زهيد مما يُتبلّغ به في المعيشة، حصيرٌ بالٍ، وقُربة ماء خلِقة، ساعتئذٍ سأل عمر: يا أبا عبيدة، ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس؟. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يبلغني المَقيل. فقال عمر بتوجع: غيرتنا الدنيا كلنا، غيرك يا أبا عبيدة. وازداد عمر هنا محبة لأبي عبيدة، فوق محبته الأولى.
عاد عمر إلى المدينة، ثم بعد فترة من الزمن، ترامت إلى سمعه أنباء الوباء الذي دهى الناس في الشام، ذلك الطاعون الوبيل، الذي اجتاحهم، فحصد أرواحهم، وفتك بخلق كثير، فراعت عمر تلك الأنباء، فكتب رسالة إلى أبي عبيدة، قال فيها:(إني بَدَت لي إليك حاجة لا غنى لي عنك فيها، فإذا أتاك كتابي ليلا، فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إليّ، وإن أتاك نهارا، فإني أعزم عليك ألا تمسي حتى تركب إليّ)، أراد عمر رضي الله عنه، استبقاءه للأمة، فهو أمينها، وهكذا يعرف الرجالُ أقدار الرجال، فلا يُجحد ذو فضلٍ فضلَه. بلغ كتاب عمر هذا أبا عبيدة، فقال:(قد علمت حاجة أمير المؤمنين إلي، فهو يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ)، وكتب إليه:(يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين، ولا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم، ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله فيّ وفيهم أمره، فإذا أتاك كتابي هذا، فحلِلني من عزمك، وائذن لي بالبقاء).
لما قرأ عمر كتابه هذا، بكى وفاضت دموعه، فقال مَن عنده، حين رأوا حالته هذه: أمات أبو عبيدة، يا أمير المؤمنين؟. فقال عمر: لا، ولكن الموت منه قريب. ولقد صدق ظن عمر، وما كذب حدسه، إذ أصيب أبو عبيدة بالطاعون، وشاء الله أن يموت به، فتوفي رضي الله عنه، في أرض (عمواس)، سنة ثماني عشرة للهجرة، وله من العمر ثمان وخمسون سنة، وقام معاذ بن جبل في أهل الشام، قام النَّعِيُّ فأسمعا، ونعى الكريمَ الأروعا، فقال:(أيها الناس، إنكم فُجِعتم برجل، ما أزعم والله أني رأيت من عباد الله قط، أقل حقدا، ولا أبرَّ صدرا، ولا أبعد غائلة، ولا أشد حياءً، ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه)..
لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته
جاء الناعي المدينة بهذا النبأ الأليم، ونعى للمسلمين، أمين الأمة، فبكَوْا وحزنوا، أشدَّ البكاء والحزن.
وكان مبلغ النَعْي عظيما على أقواهم إيمانا، وأحزمهم نفسا، على عمر بن الخطاب، الذي بكى أخاه العزيز الكريم عليه، ولنا أن ندرك قدر أبي عبيدة عنده، فيما روي عنه أنه قال: (لو كنت متمنيا، ما تمنيت إلا بيتا مملوءاً برجال من أمثال أبي عبيدة). وما نسي عمر أبا عبيدة، بل ذكره حتى في أشق ساعة في الحياة، وهو يجود بأنفاسه، فقال: (لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي عنه قلت: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: هو أمين هذه الأمة).
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6321
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5082
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3816
| 21 أكتوبر 2025