رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
إذا شئنا الولوج في الفرضيات المتعددة والمتنوعة التي تحيط بنشوء (تنظيم الدولة الإسلامية) وهي على كل تعددها وتنوعها، كل منها لا تبدو بلا أرضية تدعمها في الواقع الإقليمي والعالمي بنسب متفاوتة، فإننا حتماً سنصاب بحيرة كبرى.
فإنِ افترضتَّ أنها صنيعة إيرانية-سورية-روسية-صينية (نظرية طوق النجاة للنظام السوري) هدفها فك العزلة الإقليمية والدولية عن النظام الحاكم في سوريا بدعوى أن التنظيم إرهاب إسلامي يحمل أيديولوجية سنية امتدادية من (القاعدة)، فأنت لم تذهب بعيداً في افتراضك، فقد وضحت الغاية من ذلك الهدف بترميم علاقات سوريا-النظام الحاكم مع عدد من البلاد العربية وهو تغير أو تطور نوعي. لأن النظام السوري بمعاونة الروس والإيرانيين و(حزب الله) والتيار الشيعي الحاكم في العراق والصينيين بشكل أو بآخر وكل حسب أسلوبه ونفوذه أقنعوا العالم أن النظام السوري يحارب الإرهاب، مثله مثل ما يُعرف بالمجتمع الدولي بقيادة أمريكا ولذلك لابد من الوقوف مع النظام السوري ضد الإرهاب الذي يشكله (تنظيم الدولة الإسلامية.).
وإنِ افترضتَّ أن إيران بالتحديد (سواء كان التنظيم صنيعتها أو صنيعة غيرها أو صنيعة نفسه)، كرست لدى الغرب (وهو الأهم) مفهوم أن الإسلام الشيعي ليس إرهابيا، بل هو ضحية وبالتالي لاحظنا (رغم النفي الإعلامي العلني) اصطفافاً إيرانيا مع التحالف الأربعيني بقيادة أمريكا ضد (تنظيم الدولة الإسلامية) من خلال قصف طائرات إيرانية لمواقع التنظيم في داخل العراق قبل شهرين تقريباً (بصرف النظر عن تنسيق مسبق مع أمريكا) واقتناع الغرب بأن الشيعة مستهدفون مثلهم وكغيرهم من المقاومة السنية أو الإرهاب السني الذي يمثله بشكل رئيسي (تنظيم الدولة الإسلامية) فأنت أيضاً لم تذهب بعيداً في افتراضك.
وإنْ أنت افترضتَّ أن إنشاء (تنظيم الدولة الإسلامية) هدفه تحييد العداءين السنيين الرسميين (على الأقل) والشعبيين (إلى درجة ما) لكل من الدول أو التنظيمات الشيعية والعداء لإسرائيل وتصوير أن (تنظيم الدولة الإسلامية) هو العدو الأوحد الآن للعالم العربي السني والشيعي معاً ولذلك لابد من شن الحرب عليه، فأنت كذلك لم تذهب بعيداً في افتراضك.
الذي يكرس أو يؤكد مثل هذه الفرضية دراسة أصدرها المركز القومي للبحوث الإستراتيجية الصهيوني في (تلَّ أبيب) مفادها أن (إنشاء أو نشوء تنظيم الدولة الإسلامية) وحد "إسرائيل" من خلال الغرب أي بصورة غير مباشرة أو مباشرةً مع الشيعة، ولاسيَّما (حزب الله) وإيران، لمحاربة (تنظيم الدولة الإسلامية) وبالتالي إبعاد إمكانية (وهي فرضية أيضاً) أن يشن (حزب الله) حربا جديدة على "إسرائيل" وإبعاد شبح التهديدات المتبادلة بين إيران وإسرائيل بسبب فرضية وجود أسلحة نووية لدى إيران (وهذه أيضاً فرضية). أعرف جيداً (وهذه ليست فرضية، بل حقيقة) أن إيران كانت قلقة منذ إنهاء نظام (صدام حسين) السني في العراق من اعتبار الحكومات العربية السنية والسنَّة العرب إيران هي العدو الأول (وليس "إسرائيل") للعالم العربي، ولاسيَّما بلدان الخليج العربي. المستشار الثقافي الإيراني في (الدوحة) قال في اجتماع لي معه في مكتبه: إن "إسرائيل" والغرب بقيادة أمريكا (بنسب متفاوتة) وبإيعازات من (الإيباك) وردهاتها (لوبياتها) المنتشرة في أوروبا وفي كل مكان من العالم مهتمة باستمرار إيجاد عداء طائفي بين السنة والشيعة لكونه بديلاً عن العداء لإسرائيل.
هذه (الفرضية) يمكن أن ترقى إلى حقيقة ملموسة في الواقع بَيْدَ أن جهاتٍ محددة سنية وشيعية وصهيونية وغربية وغيرها أرادت أن تخلق عدوا آخر للاثنين، للسنة والشيعة، وفي الوقت نفسه لإسرائيل وللغرب وهو (تنظيم الدولة الإسلامية) الذي يكره كثير من السنة المعتدلين تطرفهم السلوكي الذي يرون فيه تشويهاً للإسلام أمام العالم، وهذه أيضاً فرضية أخرى موجعة.
إذن خارج كل تلك الفرضيات والتخرصات أين تكمن الحقيقة، حقيقة (تنظيم الدولة الإسلامية)؟، هل هو ذاتي الإنشاء والتشكيل مستفيداً من المعادلات الإقليمية والدولية، أم أنه صنيعة؟
الاتهام الروسي أمس للولايات المتحدة الأمريكية بأنها تدعم (تنظيم الدولة الإسلامية) ضد نظام أو مؤسسة (بشار الأسد) الحاكمة في سوريا، يمكن أن يكون صحيحاً، بَيْدَ أنه ليس يعني بالضرورة تحالفاً أمريكيا وغربيا مع التنظيم أو رضا عنه بقدر ما قد يبدو مجرد (تقاطع مصالح) بين الغرب بقيادة (أمريكا) والتنظيم لإضعاف روسيا وحلفائها في سوريا، وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة!
ألم يدعم الغرب بقيادة أمريكا (تنظيم القاعدة) والجهاد الأفغاني الذي خرجت من عباءته (حركة طالبان؟)، كان ذلك حتماً في إطار (تقاطع المصالح) نفسه الذي يبدو جليًّا في الأزمة السورية.
السؤال المتبادر للذهن، هل سيعيد تاريخ الصراع مع الغرب في (أفغانستان) نفسه في سوريا والعراق وامتدادات أخرى في العالم العربي ربما؟، بمعنى هل ستتقاتل (حركات المعارضة المسلحة ضد النظام السوري، سواء التي تقاتله متحدةً أم تلك التي تقاتله بأشكال أخرى) ضد بعضها البعض بعد (فرضية احتمال سقوط النظام السوري) كما فعلت فصائل الجهاد الأفغاني بعد انسحاب قوات (الاتحاد السوفييتي) السابق، إذ تقاتلت قوات الشمال بقيادة الراحل (أحمد شاه مسعود الملقب بأسد بانشير) ضد قوات الجنوب بقيادة (برهان الدين رباني؟).
وهل سيتحول (تنظيم الدولة الإسلامية) إلى عقبة كؤود أمام الهيمنة الإمبريالية الأمريكية الغربية في العالم العربي على غرار ما فعلته (طالبان) في (أفغانستان)، إذ أذاقت حلف (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الهزائم تلو الهزائم على مدى أربع عشرة سنة والتي أعلنت قبل أيام فقط هزيمة (الناتو) في (أفغانستان) وسيطرتها على المشهد الأفغاني رغم وجود حكومة منتخبة في (كابول) مدعومة من الغرب بقيادة (أمريكا) وهي حكومة لا تعني أي شيء لحركة (طالبان) المصرة على العودة للحكم، كما تعلن ذلك دائماً في بياناتها.
يبدو أن السيناريو نفسه أو ما هو قريب منه أو شبيه به يسير في الاتجاه نفسه في خضم فرضيات الصراع بين (تنظيم الدولة الإسلامية) والغرب.
إذن لنعُد إلى الافتراض حول أن كل ما يجري في العالم العربي من صراعات وثورات مضادة وفوضى (غير خلاقة) وليست (خلاقة) كما أرادت لها أن تكون (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة أو (السُّبْقى).
وعلى رأس كل تلك الصراعات والفوضى وضرب عمليات الثورات الشعبية العربية بثورات مضادة هو الصراع المسلح (المؤدلج) بين (تنظيم الدولة الإسلامية) وأمريكا بحلفائها في (التحالف الأربعيني)، كل ذلك من أجل "إسرائيل" أن تبقى هي الأقوى.
إذا بدت هذه الفرضية معقولة، إذن الآن يتم تسويق فكرة أن (الإسلام) الذي يمثله (تنظيم الدولة الإسلامية) هو العدو الأول وحتى الأوحد للعالم العربي وليس "إسرائيل".
فهل يا تُرى سينطلي هذا التزييف الهائل للحقائق – بصرف النظر عن درجة اتفاقنا أو اختلافنا مع التنظيم- على الشعوب العربية التي تجاوزت بوعيها (نتيجة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد) أنظمتها الحاكمة؟.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6696
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2763
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2442
| 30 أكتوبر 2025