رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

خلود زايد

مساحة إعلانية

مقالات

0

خلود زايد

كيف ساهم علم النفس في تطبيع السلوكيات المؤذية؟

05 ديسمبر 2025 , 07:21ص

في خضم التطور الكبير الذي شهده علم النفس في العصر الحديث، ظهرت مصطلحات جديدة أخذت مكانها في الأذهان، وصارت تتردد على الألسن بشكل يومي. من بين هذه المصطلحات: النرجسية، الشخصية السامة، والسيكوباتية. تلك الكلمات التي لم تكن في الماضي تحمل أي معنى عند الكثيرين، أصبحت اليوم شائعة الاستخدام، مختصرة في حروف قليلة مفاهيم معقدة وسلوكيات خطرة. لكن، هل أدى تبسيط هذه المصطلحات إلى فهم أعمق للظاهرة أم إلى تبريرها وتقبلها دون وعي؟

النرجسية، في جوهرها، تعني حب النفس المفرط والرغبة الدائمة في تلقي الإعجاب والاحترام من الآخرين. لكنها في حقيقة الأمر تحمل في طياتها صفات الأنانية والتكبر والغرور، تلك الصفات التي طالما كانت محل استهجان في مختلف الثقافات، بل وفي الأديان. ولعل أبرز مثال على ذلك قول الله تعالى: «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا» (سورة الإسراء، الآية 37)، حيث يحذر القرآن الكريم من التكبر والتعالي. ومع ذلك، حين نصف شخصًا بأنه نرجسي اليوم، يبدو الأمر أقل وطأة، وكأننا نقلل من أثر سلوكه على من حوله، متجاهلين أن النرجسية هي وجه آخر للأنانية المقيتة.

أما الشخصية السامة، فهي تلك التي تتصف بالسلبية المستمرة والسعي إلى إيذاء الآخرين لتحقيق مصالح ذاتية. قد يستخدم البعض مصطلح السامة لوصف شخص ينشر الطاقة السلبية أو يؤذي نفسيًا، لكن الحقيقة أن السمية في معناها الأعمق هي قدرة على استغلال الآخرين بشكل ممنهج، وبث القلق والخوف في نفوس من يحيطون به. أليس هذا ما يفعله الإنسان المستغل الذي يسلب من حوله راحتهم؟ في الواقع، السمية ليست مجرد صفة نفسية بسيطة، بل هي خطر على التوازن الاجتماعي والعاطفي.

وأما السيكوباتي، فهو ذلك الشخص الذي يفتقر للتعاطف، ويتسم بالعدوانية والخداع، دون مراعاة لعواقب أفعاله على الآخرين. ورغم أن هذا المصطلح قد يبدو علميًا ومعقدًا، إلا أن حقيقته ليست بعيدة عن أولئك الذين يستمتعون بإيذاء الغير ويتلذذون بالسيطرة على مشاعرهم وعقولهم. إن السيكوباتية ليست مجرد اضطراب نفسي، بل هي تجسيد للشر الكامن في النفس البشرية. إن العلم، حين يسعى إلى تفسير السلوكيات المؤذية في إطار علمي، قد يساهم دون قصد في تخفيف وطأتها على المجتمعات. فتلك المصطلحات التي تختصر الشخصيات الأنانية والمتعجرفة والمغرورة والمستغلة في كلمات بسيطة، قد تبدو كأنها محاولة لفهمهم وتقبلهم. لكن في الواقع، هي عملية تلطيف للمشكلة، تجعل من السهل على الناس استخدام هذه الصفات دون الشعور بثقلها الأخلاقي.

إن القول بأن شخصًا نرجسي أو سام أو سيكوباتي، دون إدراك المعاني الحقيقية لتلك الصفات، يفتح الباب أمام تقبل ما كان يجب أن يُرفض. ففي نهاية المطاف، حين نقول إن فلانًا نرجسي، هل نعني بذلك أنه شخص يبالغ في حبه لذاته فقط؟ أم أننا نتجاهل الضرر الذي يلحقه بالآخرين من جراء تصرفاته؟ وماذا عن الشخصية السامة؟ هل نسميها هكذا لمجرد أنها متعبة أم لأنها تزرع الشك والألم في النفوس؟

إن استخدام المصطلحات النفسية بشكل دارج قد يجعل من الصعب علينا رفض السلوكيات السلبية بشكل حازم. ولعل الأخطر من ذلك هو أن علم النفس ذاته، بأسلوبه في تبسيط المفاهيم، قد يُسهم دون وعي في خدمة هذه الشخصيات المؤذية، حيث يمنحهم غطاءً علميًا يسهل عليهم تبرير تصرفاتهم. إن علم النفس بمصطلحاته الحديثة قد يلعب دورًا مزدوجًا؛ فمن جهة يقدم تشخيصًا علميًا لحالات معقدة، لكنه من جهة أخرى يخفف من وطأة تلك السلوكيات على المجتمع. هذا التبسيط قد يساعد الشخصيات النرجسية والسامة والسيكوباتية على إيجاد المبررات لسلوكهم، مما يزيد من ضحاياهم في نهاية المطاف.

إن التسامح مع الشر بحجة الفهم هو في ذاته جهل بحقيقة الأخلاق. علينا أن نعيد النظر في كيفية تناولنا لهذه المفاهيم، وأن نحرص على إبقاء المسافة بين التفسير العلمي وتبرير السلوك. فالفهم العلمي لا يجب أن يكون مبررًا للتطبيع مع السلوكيات التي تتنافى مع القيم الأخلاقية.

مساحة إعلانية