رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أثارت مشاهد التعذيب والدماء في فيلم "آلام المسيح" ردة فعل قوية لدى الكثير من المشاهدين في أمريكا والعالم، ووصلت درجة التأثر في بعضها إلى الإصابة بالسكتة القلبية والشعور بالذنب والاعتراف أمام السلطات الأمنية بجرائم قتل ارتكبت في الماضي، وفي أبسط الحالات الشعور بالحزن وذرف الدموع.
أما في الحياة اليومية فقد أصاب المشاهدَ المطلعَ على الأحداث اليومية المتلاحقة التي تلطمنا بها وسائل الإعلام المختلفة، خاصة ما يتعلق بالاحتلال الأمريكي - البريطاني للعراق أو المطحنة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني مروراً بمحاربة الإرهاب في أفغانستان والعالم، نوع من التشبع والمناعة لاعتيادية أخبار وصور القتلى والجرحى التي نشاهدها في مسلسل شبه يومي، لم يعد يهزنا شيء، لا صور الجثث والأشلاء ولا الدموع والدماء، وأصبحنا نمر مر الكرام على الأخبار مادامت لاتمسنا في أنفسنا أو معيشتنا، وأصبح الإنسان جسداً لا قيمة له.
من حين لآخر، توقظنا من سباتنا صدمة أو صدمات غير متوقعة على وزن ما حدث مؤخراً من قيام القوات الأمريكية والبريطانية بتعذيب السجناء العراقيين وانتهاك كرامتهم بطرق لم يجاريهم فيها إلا نظام صدام حسين نفسه، فالمهمة التي وصفها الرئيس الأمريكي بـ "الإنسانية" لمنح العراق الحرية والديمقراطية، و"تخليص العالم من كراهية الإرهابيين للحياة الحرة البريئة"، تحولت إلى حملة بشعة تقضي على العراقيين وتنتهك حرماتهم، فبدلاً من تعليم العراقيين فنون الديمقراطية يقوم الجنود الأمريكيون والبريطانيون بتعليمهم صنوف التعذيب وفن انتهاك الكرامة الإنسانية، وبدلاً من إغلاق الملف الأسود لسجن أبو غريب قاموا بفتح ملفات جديدة، وكأن العراقيين لم تكفهم عذابات النظام البائد. ويطل علينا الرئىس بوش ليزيد من معاناتهم ومعاناتنا ويصدمنا برفضه الاعتذار عن تصرفات جنوده - ذوي الثقافة الأمريكية - المشينة في العراق.
الحياة الحرة البريئة التي يسعى الرئيس الأمريكي للمحافظة عليها المقصود منها الغربية بطبيعة الحال، فالأخرى لا تعني الكثير بمفهوم ومنطق الهيمنة الغربية. مشاهد القتلى من المدنيين الأبرياء جراء هجمات قوى التحالف، التي أزعجت العراقيين لم تكن تعني شيئا للجنرال "مارك كيمت" عندما نصحهم بتغير القناة الإخبارية التي يشاهدونها.
جميع مرشحي الرئاسة الأمريكية ـ باستثناء واحد ـ أثاروا قضية اعداد القتلى من القوات الأمريكية فقط خلال انتقاداتهم للرئيس بوش، ولم يكن هناك ذكر للأبرياء من المدنيين العراقيين، المرشح السابق هاورد دين المعارض للحرب على العراق تجاهل موت الآلاف من الأبرياء العراقيين بقوله: "الآن قُتل 400 إنسان ما كان يجدر بهم ان يموتوا لو لم نشن الحرب على العراق"، وكان يقصد بالطبع الجنود الأمريكيين. أما آلاف العراقيين من الرجال والنساء والأطفال فلا تساوي أرواحهم شيئا يمكن ان يؤهلها لأن تُصنف بالإنسانية أو يرف لها الجفن الأمريكي!!. عشرات المواقع الرسمية على شبكة الإنترنت ترصد وتحصر الضحايا من القتلى الأمريكيين والأوروبيين موثقة بالأسماء والتواريخ. أما الأخرى ـ والمقصود بها نحن كائنات العالم الثالث ـ فهي اجتهادات فردية تندرج تحت التخمينات لا أهمية لها.
أحداث 11 من سبتمبر الإرهابية خلفت 2752 قتيلاً "منهم 124 عسكرياً من البنتاغون" و2337 جريحاً من المدنيين الأمريكيين الأبرياء حسب آخر احصائية، كما ان العمليات الإرهابية الأخرى حول العالم خلفت حوالي 750 قتيلا و2200 جريح من المدنيين، وبردة فعل، ومنذ ذلك التاريخ وحملة الحرب الأمريكية المزعومة على الإرهاب تحصد الآلاف من أرواح المدنيين الأبرياء في العراق وأفغانستان ودول أخرى، انتهزتها أنظمة دول استبدادية وقامت بتصفية المعارضة والأقليات في مجازر يندى لها جبين الإنسانية، وصلت في إحدى الدول الى مستوى وضع المعارضين وغليهم في قدور.
ففي ذات الموضوع بثت إحدى الوكالات خبراً ذكرت فيه "إن الشرطة المقدونية اعترفت أنها قتلت 7 باكستانيين قبل عامين باعتبارهم إرهابيين، وذلك تقرباً من الولايات المتحدة، في حين انهم كانوا مجرد لاجئين جاري تهريبهم للدخول إلى أوروبا، وليس لهم أي علاقة بالإرهاب، وكانت الشرطة المقدونية قد أعلنت في مارس 2002 انها صفت مجموعة إرهابية تسعى لمهاجمة سفارات أجنبية في مقدونيا»، كل ذلك بمساعدة وتحت نظر أمريكا والدول الغربية والمنظمات الدولية التي تجردت من أبسط الحقوق التي تنادي بها «للإنسان الغربي بالطبع"!!.
ففي العراق، ذكرت وكالة الاسوشيتدبرس ان عدد القتلى المدنيين في شهر أبريل الماضي فقط بلغ 1316 عراقياً، منهم 731 في الفلوجة، وبما ان القوات الأمريكية دمعها عَصِي ولا تعد الجثث كما يقول قائد القوات الأمريكية في الخليج "تومي فرانك"، فقد استقينا المعلومات من مواقع اخبارية مختلفة رجحت ان متوسط عدد القتلى المدنيين العراقيين منذ حملة الاطاحة بصدام حسين قد بلغ حوالي 12 ألف قتيل وأكثر من 30 ألف جريح (تذكروا أننا مازلنا نتحدث عن المدنيين).
في أفغانستان بلغ عدد المدنيين القتلى حوالي 3800 والجرحى أكثر من 10 آلاف، وكان رد أحد مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية على مقتل 93 مدنيا بالقرب من قندهار "الناس الذين كانوا هناك ماتوا لأننا أردناهم ان يموتوا".. هكذا ببساطة!!. إزهاق النفس البشرية من ذوي السحنة الشرقية حسب المنظور الأمريكي بالكاد تساوي 200 دولار للفرد الواحد، وهي قيمة التعويضات الأمريكية التي منحتها لعرس أفغاني بعد قصفه وتحويله الى مأتم، مقارنة بحوالي 2 مليون دولار للشخص الواحد اثر مقتل 20 أوروبياً بعد حادث اصطدام طائرة حربية بكيبل تلفريك.
وبحساب الأرقام المعلومة ـ والخافي أعظم ـ نجد انه مقابل كل مدني قام الإرهاب بقتله في هجمات 11 من سبتمبر وما تلاها قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال حملة "الحرب على الإرهاب" بقتل حوالي 6 أبرياء مدنيين بدون تأنيب للضمير أو إحساس بالذنب.
واستمراراً مع لغة الأرقام، فإن الوضع في فلسطين أهون رقمياً ومعنوياً، فرقمياً: مقابل كل إسرائيلي مدني قتل من جراء الهجمات الانتحارية قامت آلة القتل والدمار الإسرائيلية بقتل 3 فلسطينيين مدنيين أبرياء، إذ يقدر عدد القتلى من الفلسطينيين المدنيين خلال الـ 3 سنوات الأخيرة بـ 3100 قتيل ومن المدنيين الإسرائيليين بـ 890، بالاضافة الى تدمير أكثر من 7500 منزل، ناهيك عن فنون التعذيب الوحشي في معتقلاتها، وكان القادة الإسرائيليون يتحججون بأن حربهم على الفلسطينيين هي في إطار الحرب على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا. ومعنوياً: يقوم الصهاينة ـ على الأقل ـ بالبكاء على ضحاياهم تحت حائط المبكى يومياً تقريباً!!!
فاصلة أخيرة:
من ضمن اقتراحات تقرير أعده الجيش الأمريكي عام 1992 للتعامل مع "الأحداث السيئة"، اقتراح بالإعلان عن "اجراء تحقيق" حال ظهور اخبار سيئة، وذلك كوسيلة لتأخير وتخفيف حدة ردة الفعل على الرأى العام والإعلام على الحدث، وبانتظار نتائج التحقيق الذي ستجريه القوات الأمريكية والبريطانية بشأن تعذيب العراقيين والتحقيقات الأخرى التي لم تظهر نتائجها بعد، نلقاكم على الخير دائما.
29 عاماً من الصدارة
احتفلت شبكة قنوات الجزيرة والتي تُبث من قطر في الأول من نوفمبر الجاري بمرور ذكرى 29 سنة على... اقرأ المزيد
18
| 03 نوفمبر 2025
التبصير الطبي.. ميثاق ثقة لا ورقة موقعة
عندما يُجري المريض جراحة طبية، يُثار التساؤل حول من يقع عليه الالتزام بتبصير المريض: هل يلتزم بذلك الطبيب... اقرأ المزيد
24
| 03 نوفمبر 2025
معنى أن تكون شاعراً!
كل شاعر، مهما بدا هادئًا أو مطمئنًا في موقعه، يحمل في داخله جناحين قلقين، لا يطيقان البقاء طويلًا... اقرأ المزيد
24
| 03 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6693
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2757
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2421
| 30 أكتوبر 2025