رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
"أحمد محمد"، هو فتى مولع بالاختراعات الميكانيكية والإلكترونية، وينتمي لعائلة سودانية، تقيم في مدينة "ايرفينغ" بولاية "تكساس" بالولايات المتحدة الأمريكية، في أحد الأيام اخترع أحمد ساعة ميكانيكية مختلفة، وحملها معه إلى المدرسة، ليعرضها على معلمه. تفحّص المعلم الساعة بعيون تملؤها الحيرة، لِما شاهده من تمديدات كهربائية وأجهزة ميكانيكية معقدة. طلب المعلم من أحمد التوجه إلى صفه الدراسي، ووعده بمواصلة الحديث حول الموضوع لاحقًا، غمرت السعادة فؤاد أحمد، الرغب بالحصول على اهتمام معلميه، كأي طفل في هذا العالم.
المخترع أصبح "إرهابيًا"!
اعتبر معلمو الفتى السوداني المسلم، ذو الـ 14 ربيعًا، أن الاختراع ليس عبارة عن ساعة، بل هو "قنبلة موقوتة"، وتقدموا ببلاغٍ إلى الشرطة حول ذلك. اقتحمت الشرطة المدرسة، واعتقلت الطالب أحمد، الذي كان ينتظر بشوق التقدير من معلميه.. كبَّلت الشرطة يداه على مسمع ومرأى زملائه الطلاب، واقتادته إلى المركز.. وطبعًا تمت مصادرة الساعة أيضًا.
خيّم الذهول على أحمد جراء هول المفاجأة، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل قامت الشرطة باستجواب الطفل، دون أن تسمح أو تمنحه فرصة إبلاغ عائلته أو محاميه، فضلًا عن معاقبته بـ "الإبعاد عن المدرسة لمدة ثلاثة أيام". انتشر الخبر في وسائل التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، عقب نشر إحدى الصحف المحلية تفاصيل ما حدث.
احتدمت النقاشات التي بدأت بتوجيه انتقادات للشرطة والمعلمين، واتهمتهم بـ "الجهل" لعدم قدرتهم على التمييز بين "الساعة" و "القنبلة الموقوتة"، وامتدت لتتناول مواضيع تمحورت حول "العنصرية" و "الإسلاموفوبيا"، إلى ذلك، أطلق بعض الناشطين على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، وسمًا بعنوان "أنا مع أحمد". تزايد حجم الدعم المقدم للفتى السوداني، بالتزامن مع تزايد سيل الانتقادات الموجهة للمدرسة والشرطة، فيما بدأت قضية أحمد، تستحوذ على مكانة مهمة، في أجندة كبريات وسائل الإعلام الأمريكية.
اعتبرت الشرطة الأمريكية، اختراع الفتى المسلم الأسمر لساعة، بمثابة جريمة تستوجب العقاب، في الوقت الذي لم تعتبر فيه يومًا، قيام الأطفال البيض من غير المسلمين، بالتقاط صورٍ لأنفسهم وهم يحملون أسلحة آلية، على أنه جريمة أو جنحة تستوجب التحقيق والبحث. وجدت الإدارة الأمريكية نفسها مجبرة على التدخل في القضية، سيما أن الشارع الأمريكي لم ينس بعد حادثة مقتل مواطنين سود على يد رجال شرطة عنصريين، كما لم ينس الاحتجاجات التي قام بها السود ومنظمات المجتمع المدني المناهضة للعنصرية في مدينة "فيرغسون" (ميزوري)، احتجاجًا على مقتل شاب أسود على يد الشرطة.
عندما تدفن أوروبا اللاجئين في مياه البحر
لنعد قليلًا إلى الوراء، لنذهب إلى الدنمارك هذه المرة.
قبل أسبوع واحد من غرق الطفل السوري "آلان الكردي" (3 أعوام)، والعثور على جثته الصغيرة، ملقاة على أحد شواطئ بحر إيجة، عثرت السلطات النمساوية على أكثر من 71 جثة، تعود للاجئين غير شرعيين، في شاحنة تُركَت إلى جانب أحد الطرقات، في منطقة قريبة من الحدود مع المجر. وقبل ذلك بفترة وجيزة، غرقت سفينة تحمل لاجئين قبالة السواحل الإيطالية، ما أدى إلى مصرع 400 منهم، حيث عثر على جثث بعضهم ملقاة على السواحل الليبية. إن ما ذكر آنفًا من أعداد لا تشكل سوى نزر يسير من الأعداد الكبيرة للاجئين، الذين في البر وفي البحر، على مدار السنوات الأربع الماضية، وهم يبحثون عن الأمان والحياة الآدمية الكريمة.
فيما هزّت صورة الطفل السوري "آلان" مشاعر العالم، كانت الشرطة الدنمركية تتخذ إجراءات صارمة، لمنع تدفق اللاجئين من دول الشرق الأوسط عبر الحدود. أدت تلك الإجراءات وغير من الإجراءات التي اتخذتها بقية الدول الأوروبية إلى تزايد حدّة الانتقادات الموجهة إليها، محملة دول الاتحاد الأوروبي مسؤولية أزمة اللاجئين المستمرة، والتي أدت ولا تزال إلى موت عشرات الآلاف منهم، إما غرقًا في مياه البحر المتوسط أو على الأسلاك الشائكة التي أقيمت لإبعاد اللاجئين عن حدود أوروبا. وفي خضم كل هذه التطورات، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، بصور أظهرت مصورة صحفية مجرية، تعتدي بالضرب على لاجئين، حيث ضربت طفلة وركلت لاجئًا آخر يحمل ابنه، وأوقعتهما أرضًا.
كل تلك الأحداث دفعت الدول الأوروبية نحو اتخاذ قرار بالتحرك، ولكن كيف؟
دعونا نتوقف هنا، ونعود إلى الولايات المتحدة.
أوباما يعرب عن دعمه لـ "أحمد" و "ناسا" تعده بالفضاء شهدت قضية المخترع السوداني أحمد، التي أثارت تصدعات خطيرة في المجتمع الأمريكي (العنصرية والإسلاموفوبيا)، تدخلاً مفاجئًا، حيث نشر الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، رسالة دعم للطفل السوداني قائلًا "ساعة جميلة يا أحمد هل تريد إحضارها إلى البيت الأبيض؟"، وكتب أيضًا "علينا تشجيع المزيد من الأطفال أمثالك ليحبوا العلوم، هذا ما يجعل من الولايات المتحدة عظيمة؟".
إلى جانب ذلك، وجهت "هيلاري كلينتون" والعديد من السياسيين رسائل دعم لأحمد، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لقيت قضية أحمد دعمًا من قبل القائمين على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وشركة "جوجل"، ووكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، ومعهد "ماساتشوستس" للتقنية، حيث قدموا للطفل السوداني دعوة لزيارة مؤسساتهم، أصبح أحمد فجأة محبوب من قبل الجميع.
رحب العالم بالدعم الذي لقيه أحمد من البيت الأبيض والمؤسسات الأكثر شعبية في الولايات المتحدة والعالم، في الوقت الذي لا تزال فيه الكثير من المؤسسات تعرب عند دعمها لأحمد، حتى أثناء كتابتي لهذه السطور.
دعونا نعود إلى أوروبا.
الشرطة الأوروبية ووجهها الإنساني!
تعرضت أوروبا لسيلٍ من الانتقادات، على خلفية تصريحات أطلقها زعماء أوروبيون، حول عزمهم إجراء تعديلات على قوانين اللجوء، فيما يخوض اللاجئون غمار مأساة تدمي القلوب وتقض مضاجع الضمائر الحية، وفي خضم النقاشات التي تناولت تلك التصريحات غير المقنعة، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صورًا من الدنمارك، لشرطي يجلس على طريق معبّد، ويلاعب طفلة من اللاجئين. بدى الشرطي في الصورة بمظهر مفعم بالإنسانية. انهمرت عليه - بعد انتشار تلك الصور – عروض الزواج، من كل أصقاع الأرض، طبعًا لا نعرف إن كان الشرطي متزوجًا أم لا، أو إن كان يرغب بالزواج أم لا، إلا أننا نعرف بأن الشرطي المشار إليه، قدم للعالم الوجه الإنساني لأوروبا.
ما الذي حدث في الولايات المتحدة؟
في الواقع، لعبت الأقلية السوداء والمسلمة دورًا كبيرة في إظهار قضية المخترع السوداني "أحمد محمد"، من خلال نشاط مكثف على وسائل التواصل الاجتماعي، ما دفع فريق الاتصالات السياسية المحيط بـ "أوباما"، بكتابة الرسالة التي وجهت لأحمد، كما طلب الفريق نفسه من الشركات الكبرى، بتوجيه رسائل في الإطار ذاته، ذلك لأن الفريق المشار إليه، كان متخوف من ازدياد التصدعات الاجتماعية داخل المجتمع الأمريكي، سيما وأن الشرطة الأمريكية، قتلت في الأشهر الثلاثة الماضية، نحو 300 "أسود" من مواطنيها، إضافة إلى 3 مواطنين آخرين قتلوا برصاص الشرطة الأمريكية، في اليوم الذي وجه فيه "أوباما" رسالة إلى الطفل السوداني. إلا أن حدث مقتل المواطنين الثلاثة المشار إليهم، لم يلق أي صدى ولم يحمل قيمة خبرية في وسائل الإعلام الأمريكية.
إلى ذلك، شارك أحمد في أحد البرامج التلفزيونية ولخص قضيته قائلًا: "اسمي أحمد محمد، ولوني أسود، تم اعتقالي من قبل الشرطة الأمريكية لأنني مسلم أسود، لو كان لوني أبيض لما اعتقلتني الشرطة، آمل أن لا يتعرض الآخرون لما تعرضت له".
وفي السياق ذاته، قال والد أحمد ومديرو اتحاد مسلمو أمريكا، إن ما تعرض له أحمد من اعتداء ناجم عن الشعور بالكراهية والخوف من المسلمين (الرهاب الإسلامي - إسلاموفوبيا)، ما هو إلا حادثة واحدة من الحوادث اليومية التي يتعرض لها المسلمون في الولايات المتحدة، والتي تبقى طي الكتمان ولا تتناقلها وسائل الإعلام.
ما الذي حدث في أوروبا بعد ذلك؟
لم يتمكن أحد من معرفة المعلومات الشخصية الخاصة بالشرطي الذي انتشرت صوره في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ولم يتساءل أحد عن الطريقة التي انتشرت فيها صورة الشرطي بهذه السرعة، وهل فعلاً تلقى عروضًا للزواج. لقد تدخلت الدبلوماسيات العامة في الدول الأوروبية، وضخت العشرات من الصور في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بهدف إظهار مدى إنسانية الشعوب الأوروبيين وحجم تفاعلهم من أزمة اللاجئين. وفي الواقع، فقد أغلقت الدنمارك حدودها بشكل تام، بعد 4 أيام من التقاط صورة الشرطي ونشرها، ولربما عاد الشرطي الذي نشرت صوره، إلى وظيفته الأساسية وشارك في عمليات منع اللاجئين من العبور إلى الدنمارك. إن أنباء اللاجئين الذين تم وضعهم في مخيمات وغرف لا تليق ولا تصلح للاستخدام الآدمي، لتكرس مأساة اللاجئين ومعاناتهم في ظل الجوع والمرض، لم تحمل قيمة خبرية بالنسبة لوسائل الإعلام الأوروبية، بالقدر الذي حملته صورة الشرطي الدنماركي، بل وحتى لم يقم أحد بالتحقيق في الأنباء التي تحدثت عن قيام الشرطة الإيطالية واليونانية، بثقب القوارب المطاطية التي تقل لاجئين، وإغراقها عمدًا. لم يحقق أحد في تلك الأنباء، ولم يشعر أحد بالحاجة للتحقيق في خفاياها.
الدبلوماسية العامة في العالم الإسلامي
إن الأنشطة التي تجريها الدبلوماسية العامة في الولايات المتحدة وأوروبا، تجعل تلك البلدان بمنأى عن النقد، والإصابة بالصدوع الاجتماعية الخطيرة، فضلًا عن أنها تشكل غطاءً للانتهاكات التي تجري دون توثيق ودون أن يشعر بها أحد. بفضل تلك الأنشطة، بات العالم كله مقتنعًا بأن الحكومات الغربية تشكل نبراسًا لـ "الضمير الإنساني والتراحم!".
أنظروا إلى الولايات المتحدة التي حولت مخترعًا إلى "إرهابي"، ثم حولت "الإرهابي" إلى "بطل"، وإلى أوروبا التي عملت على إخفاء قبح سياساتها في التعامل مع اللاجئين وتصنيفاتها التي تخلو من الأخلاق، بستار "الشرطي الحنون"، ثم إنظروا إلى العالم الإسلامي، الذي لا يمتلك القدرة على شرح قضيته والتعريف بالأسباب التي دفعت سكانه لأن يكونوا لاجئين، إلى العالم الإسلامي الذي يقف عاجزًا عن إسماع صوته للعالم.
هل ينبغي علينا أن نغضب من الغرب أم علينا أن نتحسر على أنفسنا؟ صدقوني لم أعد أعرف.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول شعاع يلامس مياه الخليج الهادئة، من المعتاد أن أقصد شاطئ الوكرة لأجد فيه ملاذا هادئا بعد صلاة الفجر. لكن ما شهده الشاطئ اليوم لم يكن منظرا مألوفا للجمال، بل كان صدمة بصرية مؤسفة، مخلفات ممتدة على طول الرمال النظيفة، تحكي قصة إهمال وتعدٍ على البيئة والمكان العام. شعرت بالإحباط الشديد عند رؤية هذا المنظر المؤسف على شاطئ الوكرة في هذا الصباح. إنه لأمر محزن حقا أن تتحول مساحة طبيعية جميلة ومكان للسكينة إلى مشهد مليء بالمخلفات. الذي يصفه الزوار بأنه «غير لائق» بكل المقاييس، يثير موجة من التساؤلات التي تتردد على ألسنة كل من يرى المشهد. أين الرقابة؟ وأين المحاسبة؟ والأهم من ذلك كله ما ذنب عامل النظافة المسكين؟ لماذا يتحمل عناء هذا المشهد المؤسف؟ صحيح أن تنظيف الشاطئ هو من عمله الرسمي، ولكن ليس هو المسؤول. والمسؤول الحقيقي هو الزائر أولا وأخيرا، ومخالفة هؤلاء هي ما تصنع هذا الواقع المؤلم. بالعكس، فقد شاهدت بنفسي جهود الجهات المختصة في المتابعة والتنظيم، كما لمست جدية وجهد عمال النظافة دون أي تقصير منهم. ولكن للأسف، بعض رواد هذا المكان هم المقصرون، وبعضهم هو من يترك خلفه هذا الكم من الإهمال. شواطئنا هي وجهتنا وواجهتنا الحضارية. إنها المتنفس الأول للعائلات، ومساحة الاستمتاع بالبيئة البحرية التي هي جزء أصيل من هويتنا. أن نرى هذه المساحات تتحول إلى مكب للنفايات بفعل فاعل، سواء كان مستخدما غير واعٍ هو أمر غير مقبول. أين الوعي البيئي لدى بعض رواد الشاطئ الذين يتجردون من أدنى حس للمسؤولية ويتركون وراءهم مخلفاتهم؟ يجب أن يكون هناك تشديد وتطبيق صارم للغرامات والعقوبات على كل من يرمي النفايات في الأماكن غير المخصصة لها، لجعل السلوك الخاطئ مكلفا ورادعا.
4302
| 05 ديسمبر 2025
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو الطيب» يتألق في نَظْم الشعر.. وفي تنظيم البطولات تتفوق قطر - «بطولة العرب» تجدد شراكة الجذور.. ووحدة الشعور - قطر بسواعد أبنائها وحنكة قادتها تحقق الإنجاز تلو الآخر باستضافتها الناجحة للبطولات - قطر تراهن على الرياضة كقطاع تنموي مجزٍ ومجال حيوي محفز - الحدث العربي ليس مجرد بطولة رياضية بل يشكل حدثاً قومياً جامعاً -دمج الأناشيد الوطنية العربية في نشيد واحد يعبر عن شراكة الجذور ووحدة الشعور لم يكن «جحا»، صاحب النوادر، هو الوحيد الحاضر، حفل افتتاح بطولة «كأس العرب»، قادماً من كتب التراث العربي، وأزقة الحضارات، وأروقة التاريخ، بصفته تعويذة البطولة، وأيقونتها النادرة. كان هناك حاضر آخر، أكثر حضوراً في مجال الإبداع، وأبرز تأثيراً في مسارات الحكمة، وأشد أثرا في مجالات الفلسفة، وأوضح تأثيرا في ملفات الثقافة العربية، ودواوين الشعر والقصائد. هناك في «استاد البيت»، كان من بين الحضور، نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، مهندس الأبيات الشعرية، والقصائد الإبداعية، المبدع المتحضر، الشاعر المتفاخر، بأن «الأعمى نظر إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم»! وكيف لا يأتي، ذلك العربي الفخور بنفسه، إلى قطر العروبة، ويحضر افتتاح «كأس العرب» وهو المتباهي بعروبته، المتمكن في لغة الضاد، العارف بقواعدها، الخبير بأحكامها، المتدفق بحكمها، الضليع بأوزان الشعر، وهندسة القوافي؟ كيف لا يأتي إلى قطر، ويشارك جماهير العرب، أفراحهم ويحضر احتفالاتهم، وهو منذ أكثر من ألف عام ولا يزال، يلهم الأجيال بقصائده ويحفزهم بأشعاره؟ كيف لا يأتي وهو الذي يثير الإعجاب، باعتباره صاحب الآلة اللغوية الإبداعية، التي تفتّقت عنها ومنها، عبقريته الشعرية الفريدة؟ كيف لا يحضر فعاليات «بطولة العرب»، ذلك العربي الفصيح، الشاعر الصريح، الذي يعد أكثر العرب موهبة شعرية، وأكثرهم حنكة عربية، وأبرزهم حكمة إنسانية؟ كيف لا يحضر افتتاح «كأس العرب»، وهو الشخصية الأسطورية العربية، التي سجلت اسمها في قائمة أساطير الشعر العربي، باعتباره أكثر شعراء العرب شهرة، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق في مجال التباهي بنفسه، والتفاخر بذاته، وهو الفخر الممتد إلى جميع الأجيال، والمتواصل في نفوس الرجال؟ هناك في الاستاد «المونديالي»، جاء «المتنبي» من الماضي البعيد، قادماً من «الكوفة»، من مسافة أكثر من ألف سنة، وتحديداً من العصر العباسي لحضور افتتاح كأس العرب! ولا عجب، أن يأتي «أبو الطيب»، على ظهر حصانه، قادماً من القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، لمشاركة العرب، في تجمعهم الرياضي، الذي تحتضنه قطر. وما من شك، في أن حرصي على استحضار شخصية «المتنبي» في مقالي، وسط أجواء «كأس العرب»، يستهدف التأكيد المؤكد، بأن هذا الحدث العربي، ليس مجرد بطولة رياضية.. بل هو يشكل، في أهدافه ويختصر في مضامينه، حدثاً قومياً جامعاً، يحتفل بالهوية العربية المشتركة، ويحتفي بالجذور القومية الجامعة لكل العرب. وكان ذلك واضحاً، وظاهراً، في حرص قطر، على دمج الأناشيد الوطنية للدول العربية، خلال حفل الافتتاح، ومزجها في قالب واحد، وصهرها في نشيد واحد، يعبر عن شراكة الجذور، ووحدة الشعور، مما أضاف بعداً قومياً قوياً، على أجواء البطولة. ووسط هذه الأجواء الحماسية، والمشاعر القومية، أعاد «المتنبي» خلال حضوره الافتراضي، حفل افتتاح كأس العرب، إنشاد مطلع قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم» «وتأتي على قدر الكرام المكارم» والمعنى المقصود، أن الإنجازات العظيمة، لا تتحقق إلا بسواعد أصحاب العزيمة الصلبة، والإرادة القوية، والإدارة الناجحة. معبراً عن إعجابه بروعة حفل الافتتاح، وانبهاره، بما شاهده في عاصمة الرياضة. مشيداً بروعة ودقة التنظيم القطري، مشيراً إلى أن هذا النجاح الإداري، يجعل كل بطولة تستضيفها قطر، تشكل إنجازاً حضارياً، وتبرز نجاحاً تنظيمياً، يصعب تكراره في دولة أخرى. وهكذا هي قطر، بسواعد أبنائها، وعزيمة رجالها، وحنكة قادتها تحقق الإنجاز تلو الآخر، خلال استضافتها الناجحة للبطولات الرياضية، وتنظيمها المبهر للفعاليات التنافسية، والأحداث العالمية. وخلال السنوات الماضية، تبلورت في قطر، مرتكزات استراتيجية ثابتة، وتشكلت قناعات راسخة، وهي الرهان على الرياضة، كقطاع تنموي منتج ومجزٍ، ومجال حيوي محفز، قادر على تفعيل وجرّ القطاعات الأخرى، للحاق بركبه، والسير على منواله. وتشغيل المجالات الأخرى، وتحريك التخصصات الأخرى، مثل السياحة، والاقتصاد، والإعلام والدعاية، والترويج للبلاد، على المستوى العالمي، بأرقى حسابات المعيار العالمي. ويكفي تدشينها «استاد البيت»، ليحتضن افتتاح «كأس العرب»، الذي سبق له احتضان «كأس العالم»، وهو ليس مجرد ملعب، بل رمز تراثي، يجسد في تفاصيله الهندسية، معنى أعمق، ورمزا أعرق، حيث يحمل في مدرجاته عبق التراث القطري، وعمل الإرث العربي. وفي سياق كل هذا، تنساب في داخلك، عندما تكون حاضراً في ملاعب «كأس العرب»، نفحات من الروح العربية، التي نعيشها هذه الأيام، ونشهدها في هذه الساعات، ونشاهدها خلال هذه اللحظات وهي تغطي المشهد القطري، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. وما من شك، في أن تكرار نجاحات قطر، في احتضان البطولات الرياضية الكبرى، ومن بينها بطولة «كأس العرب»، بهذا التميز التنظيمي، وهذا الامتياز الإداري، يشكل علامة فارقة في التنظيم الرياضي. .. ويؤكد نجاح قطر، في ترسيخ مكانتها على الساحة الرياضية، بصفتها عاصمة الرياضة العربية، والقارية، والعالمية. ويعكس قدرتها على تحقيق التقارب، بين الجماهير العربية، وتوثيق الروابط الأخوية بين المشجعين، وتوطيد العلاقات الإنسانية، في أوساط المتابعين! ولعل ما يميز قطر، في مجال التنظيم الرياضي، حرصها على إضافة البعد الثقافي والحضاري، والتاريخي والتراثي والإنساني، في البطولات التي تستضيفها، لتؤكد بذلك أن الرياضة، في المنظور القطري، لا تقتصر على الفوز والخسارة، وإنما تحمل بطولاتها، مجموعة من القيم الجميلة، وحزمة من الأهداف الجليلة. ولهذا، فإن البطولات التي تستضيفها قطر، لها تأثير جماهيري، يشبه السحر، وهذا هو السر، الذي يجعلها الأفضل والأرقى والأبدع، والأروع، وليس في روعتها أحد. ومثلما في الشعر، يتصدر «المتنبي» ولا يضاهيه في الفخر شاعر، فإن في تنظيم البطولات تأتي قطر، ولا تضاهيها دولة أخرى، في حسن التنظيم، وروعة الاستضافة. ولا أكتب هذا مديحاً، ولكن أدوّنه صريحاً، وأقوله فصيحاً. وليس من قبيل المبالغة، ولكن في صميم البلاغة، القول إنه مثلما يشكل الإبداع الشعري في قصائد «المتنبي» لوحات إبداعية، تشكل قطر، في البطولات الرياضية التي تستضيفها، إبداعات حضارية. ولكل هذا الإبداع في التنظيم، والروعة في الاستضافة، والحفاوة في استقبال ضيوف «كأس العرب».. يحق لدولتنا قطر، أن تنشد، على طريقة «المتنبي»: «أنا الذي حضر العربي إلى ملعبي» «وأسعدت بطولاتي من يشجع كرة القدمِ» وقبل أن أرسم نقطة الختام، أستطيع القول ـ بثقة ـ إن هناك ثلاثة، لا ينتهي الحديث عنهم في مختلف الأوساط، في كل الأزمنة وجميع الأمكنة. أولهم قصائد «أبو الطيب»، والثاني كرة القدم باعتبارها اللعبة الشعبية العالمية الأولى، أمــــا ثالثهم فهي التجمعات الحاشدة، والبطولات الناجحة، التي تستضيفها - بكل فخر- «بلدي» قطر.
2058
| 07 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين برحيل معالي الأستاذ الدكتور الشيخ محمد بن علي العقلا، أحد أشهر من تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والحق أنني ما رأيت أحدًا أجمعت القلوب على حبه في المدينة المنورة لتواضعه ودماثة أخلاقه، كما أجمعت على حب الفقيد الراحل، تغمده الله بواسع رحماته، وأسكنه روضات جناته، اللهم آمين. ولد الشيخ العقلا عليه الرحمة في مكة المكرمة عام 1378 في أسرة تميمية النسب، قصيمية الأصل، برز فيها عدد من الأجلاء الذين تولوا المناصب الرفيعة في المملكة العربية السعودية منذ تأسيس الدولة. وقد تولى الشيخ محمد بن علي نفسه عمادة كلية الشريعة بجامعة أم القرى، ثم تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1428، فكان مكتبه عامرا بالضيوف والمراجعين مفتوحًا للجميع وجواله بالمثل، وكان دأبه الرد على الرسائل في حال لم يتمكن من إجابة الاتصالات لأشغاله الكثيرة، ويشارك في الوقت نفسه جميع الناس في مناسباتهم أفراحهم وأتراحهم. خرجنا ونحن طلاب مع فضيلته في رحلة إلى بر المدينة مع إمام الحرم النبوي وقاضي المدينة العلامة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ وعميد كلية أصول الدين الشيخ عبد العزيز بن صالح الطويان ونائب رئيس الجامعة الشيخ أحمد كاتب وغيرهم، فكان رحمه الله آية في التواضع وهضم الذات وكسر البروتوكول حتى أذاب سائر الحواجز بين جميع المشاركين في تلك الرحلة. عرف رحمه الله بقضاء حوائج الناس مع ابتسامة لا تفارق محياه، وقد دخلت شخصيا مكتبه رحمه الله تعالى لحاجة ما، فاتصل مباشرة بالشخص المسؤول وطلب الإسراع في تخليص الأمر الخاص بي، فكان لذلك وقع طيب في نفسي وزملائي من حولي. ومن مآثره الحسان التي طالما تحدث بها طلاب الجامعة الإسلامية أن أحد طلاب الجامعة الإسلامية الأفارقة اتصل بالشيخ في منتصف الليل وطلب منه أن يتدخل لإدخال زوجته الحامل إلى المستشفى، وكانت في حال المخاض، فحضر الشيخ نفسه إليه ونقله وزوجته إلى المستشفى، وبذل جاهه في سبيل تيسير إدخال المرأة لتنال الرعاية اللازمة. شرفنا رحمه الله وأجزل مثوبته بالزيارة إلى قطر مع أهل بيته، وكانت زيارة كبيرة على القلب وتركت فينا أسنى الأثر، ودعونا فضيلته للمشاركة بمؤتمر دولي أقامته جامعة الزيتونة عندما كنت مبتعثًا من الدولة إليها لكتابة أطروحة الدكتوراه مع عضويتي بوحدة السنة والسيرة في الزيتونة، فكانت رسالته الصوتية وشكره أكبر داعم لنا، وشارك يومها من المملكة معالي وزير التعليم الأسبق والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الوالد الشيخ عبدالله بن صالح العبيد بورقة علمية بعنوان «جهود المملكة العربية السعودية في خدمة السنة النبوية» ومعالي الوالد الشيخ قيس بن محمد آل الشيخ مبارك، العضو السابق بهيئة كبار العلماء في المملكة، وقد قرأنا عليه أثناء وجوده في تونس من كتاب الوقف في مختصر الشيخ خليل، واستفدنا من عقله وعلمه وأدبه. وخلال وجودنا بالمدينة أقيمت ندوة لصاحب السمو الملكي الأمير نواف بن فيصل بن فهد آل سعود حضرها أمير المدينة يومها الأمير المحبوب عبد العزيز بن ماجد وعلماء المدينة وكبار مسؤوليها، وحينما حضرنا جعلني بعض المرافقين للشيخ العقلا بجوار المستشارين بالديوان الملكي، كما جعلوا الشيخ جاسم بن محمد الجابر بجوار أعضاء مجلس الشورى. وفي بعض الفصول الدراسية زاملنا ابنه الدكتور عقيل ابن الشيخ محمد بن علي العقلا فكان كأبيه في الأدب ودماثة الأخلاق والسعي في تلبية حاجات زملائه. ودعانا مرة معالي الشيخ العلامة سعد بن ناصر الشثري في الحرم المكي لتناول العشاء في مجلس الوجيه القطان بمكة، وتعرفنا يومها على رئيس هيئات مكة المكرمة الشيخ فراج بن علي العقلا، الأخ الأكبر للشيخ محمد، فكان سلام الناس عليه دليلا واضحا على منزلته في قلوبهم، وقد دعانا إلى زيارة مجلسه، جزاه الله خيرا. صادق العزاء وجميل السلوان نزجيها إلى أسرة الشيخ ومحبيه وطلابه وعموم أهلنا الكرام في المملكة العربية السعودية، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، اللهم تقبله في العلماء الأتقياء الأنقياء العاملين الصالحين من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
1788
| 04 ديسمبر 2025