رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كانت قصتي في التخلص من (الإرهاب ) قبل معرفته أو قبل انتشار أعمال العنف التي تقوم بها بعض الجماعات الإسلامية والتي أطلق عليها فيما بعد(الإرهاب )؛ وتعتبر هذه القصة متابعة لتطور موضوع قديم ثم ظل هذا الموضوع يتطور حتى أطلق عليه (الإرهاب ) المعروف الآن. وكانت هذه القصة بعيدة وغير متوقعة والتي حدثت أثناء إرسال العديد من الشباب العرب للعمل الفدائي ضد الجيش السوفييتي بعد غزوه لأفغانستان في بداية الثمانينيات من القرن الماضي عندما احتل السوفييت أفغانستان لحماية النظام المتطرف هناك من غضب شعب أفغانستان المسلم على ذلك النظام البائد.
وبدأت قصتي الغريبة عن طريق أستاذي في المرحلة الإعدادية ذلك الأستاذ الفاضل المدرس للغة الانجليزية والذي كنت أكن له الاحترام والتقدير بصفته المربي لي وأستاذي للغة الانجليزية في حينه. وعن طريق أستاذي بعد احتلال الاتحاد السوفييتي السابق لأفغانستان وما أثاره ذلك الاحتلال من ضجة سياسية إسلامية كبيرة ومخاوف المنطقة والغرب وعلى الأخص الخليج بعد أن أصبح الجيش الأحمر السوفييتي قريباً من ما يسمى بالمياه الدافئة في الخليج والأصح قريباً من منابع البترول في المنطقة.
وبعد ذلك الزمن البعيد أود اليوم في هذه المقالة كشف وإيضاح بعض جوانب ما حدث وهو بعد أن احتل الجيش السوفييتي أفغانستان تبع ذلك مخاوف كبيرة من مواصلة هذا الزحف باتجاه منطقة الخليج البترولية وكان لا بد من مقاومة ذلك الزحف الشيوعي على الأقل بتشجيع الشباب على مقاومة العدوان الشيوعي المتوقع قدومه وبعد حدوث تلك التطورات قيل أن نصيحة واشنطن كانت حسب ما علمنا تشجيع دول الخليج على القيام وبأسرع وقت في تجهيز الشباب وتسليحهم وتدريبهم وإكرامهم مالياً ودفعهم للسفر إلى أفغانستان لمقاتلة الجيش السوفييتي الغازي هناك ومن خلال الأعمال الفدائية في جبال أفغانستان الوعرة بالإضافة إلى وقوف أميركا والدول الغربية إلى جانب دول المنطقة العربية والإسلامية مثل إيران وباكستان وأفغانستان لمنع تقدم الخطر الشيوعي العدواني.
وخلال عملي لفترة قصيرة في العطلة الصيفية مشرفا على عدد من الطلاب الأصغر مني لتحفيظهم سور القرآن الكريم القصيرة وفي نفس الوقت كنت أحاول أن أحفظ بعض سور القرآن الكبيرة خلال تلك الفترة البعيدة.
وعلى غير موعد جاءني أستاذي الذي كان يدرسني اللغة الانجليزية ومعه مرافقين لا أعرفهم فسلم علينا مع مرافقيه وأمضى عدة دقائق يفاوضني بالموافقة على ذهابي مع الفدائيين الخليجيين والعرب إلى أفغانستان للقيام بأعمال فدائية ضد الكفر السوفييتي الغازي لأفغانستان.
ومما قاله أستاذي الفاضل لدى وصوله.. ماذا تعمل هنا فقلت له أحفظ الشباب القرآن للسور الصغيرة وأحاول احفظ بعض السور الكبيرة استعدادا للمرحلة القادمة... فقال أترك هذه الشغلة لقد وجدت لك شغله أهم واكبر مع العديد من زملائك وهي ان تجهز نفسك لتسافر مع المجاهدين الخليجيين لمقاتلة الكفر السوفييتي في أفغانستان الإسلامية من خلال الأعمال الفدائية وسوف تحصل على مصاريف أكثر من هذه الشغلة إضافة إلى الدفاع عن دينك ووطنك الإسلامي.
وبطريقة تلقائية وعفوية رديت على أستاذي وقلت له ما الخطر الذي يمثله الكفار علينا في الخليج وهم في أفغانستان البعيدة عنا ؟ فرد علي بسرعة: يخرب عقلك ما بتعرف أن أفغانستان بجانبك.. بدك نعلمك جغرافيا أنا جيت لك لأني أعرف يا أبني صالح أنك سوف تأخذ مصاري جيدة وتصبح بعد فترة رجل قيادي معروفاً في مقاتلة الكفر أنت والشباب تذهبوا لمحاربة السوفييت الذين يسعون للوصول إلى أبار النفط الخليجية.
وحسب اعتقادي أن ردي الأخير في حينه كان موفقا رغم أن ذلك الرد كان عفويا.. فرديت عليه بعدم الموافقة ومما قلته له حتى أتخلص من ذلك الطلب.. أستاذ خليل قال نعم.. قلت له والله لن أوافق على ذلك ولكنني في نفس الوقت مستعد فورا للموافقة وللسفر لمحاربة اليهود لتحرير القدس الشريف من الاحتلال الإسرائيلي وبعد تحرير القدس نذهب جميعا الى أفغانستان وغير أفغانستان لتحريرها.
ولم أتوقع أن يصده ذلك الرد وبسرعة تركني أستاذي الفاضل مع رفيقيه وهو يردد عبارات غير مفهومة وبصوت خافت وأغلب الظن أنها كانت عبارات غاضبة ضدي لإصراري على الرفض لأنني وغيري الآلاف من الطلاب كنا متأثرين بخطب الأستاذ فتحي البلعاوي الشهيرة في حينه حول تحرير فلسطين والقدس من الاحتلال الإسرائيلي عندما كان البلعاوي مدرسا في المدارس الإعدادية والثانوية القطرية.
ومن خلال متابعة بسيطة لتلك الواقعة البعيدة والتي ما تزال عالقة في ذهني عرفت أنني كنت سأكون من الدفعة الفدائية الأولى إلى أفغانستان وربما الدفعة التي عادت من أفغانستان وضمت المرحوم أسامة بن لادن الذي قيل انه هجر بلاده بعد عمله الفدائي الناجح احتجاجا على عدم منحه منصب مناسب بعد عودته كبطل منتصر في هزيمة الروس والذين تركوا أفغانستان بعد ذلك.
وبعد تلك التطورات علمت انه كان المطلوب للتجنيد والذهاب إلى أفغانستان عددا كبيرا فقد كانت الحملة شاملة في المنطقة العربية وخاصة دول مجلس التعاون التي قيل انه ذهب الكثير من الشباب لمقاتلة الجيش السوفييتي والذي مني في النهاية بالهزيمة بعد حروب قوية ضده إلى جانب الأعمال الفدائية الشجاعة والفعالة وقيل انه استشهد من فدائيي العرب الكثيرين.
وعاد الشباب بعد محاربة السوفييت بالانتصار ونال الشهداء الرحمة من الله ولكن الأحياء وكان من أبرزهم أسامة بن لادن حسبما قيل كانت لهم تطلعات الأبطال في مجال الوظائف الهامة في بلدانهم إلا أن ذلك واجه المصاعب.
وقيل كذلك والله أعلم ان البداية كانت في انتشار الإرهاب بعد عودة الشباب الذين حاربوا السوفييت في أفغانستان والذين كانوا يطمحون بعد العودة إلى أوطانهم بالحصول على وظائف عالية وهامة بعد أن أصبحوا يعتبروا أنفسهم أبطال ولكن ذلك لم يتحقق لهم مما اضطر بعضهم إلى ترك بلدانهم والاختفاء وبعد فترة زمنية تحول الكثير منهم إلى إرهابيين منذ تلك الفترة.
وانتشرت حكايات أخرى كثيرة في حينه أن الأميركان وهم من شجع على إرسال الشباب لمحاربة الشيوعية في أفغانستان هم من حذر دول المنطقة من الموافقة على منح الشباب العائد وظائف هامة أو عالية نظرا للخطر الإسلامي المتشدد الذي اكتسبوه أثناء الجهاد مما يجعلهم يشكلون خطرا فعليا على أنظمة بلدانهم في المستقبل.
وقيل كذلك أن أسامة بن لادن كان أول الغاضبين على عدم تلبية طموحه ولذلك ترك بلاده إلى السودان ثم الاختفاء بعد ذلك ولم يعرف مكانه إلا بعد التحاقه مع بعض رفاقه الذين اندمجوا في جماعات شبه متمردة اطلق عليها (الإرهاب ) والبعض الآخر من العائدين تفهموا الأوضاع القائمة في بلادهم واندمجوا بين أهلهم ومواطنيهم.
وبعدها استمر الزمن منذ حينه يطوي سنوات طويلة حاملا معه الإرهاب الذي كبر وتوسع وأصبح اليوم يشكل خطرا عالميا يشغل كل العالم مما اضطر هذا العالم إلى إقامة المؤتمرات لمقاومته ووقف انتشاره إضافة إلى توظيف هذا الإرهاب من قبل بعض الدول الكبرى لصالحها.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6441
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6390
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3849
| 21 أكتوبر 2025