رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد المحمدي

مساحة إعلانية

مقالات

618

د. أحمد المحمدي

أفرغتَ يا أبا الوليد؟

13 يوليو 2025 , 03:24ص

كلمةٌ لو وُزِنت بثقل الأرض بيانًا، لرجحتها حكمةً وسكينةً ومهابة، لم تكن تلك الكلمة مشهدًا عابرًا في سيرة المصطفى ﷺ، بل كانت درسًا نُقِش في الأرض لأهل الرسالة، ليُعلّمهم كيف يقفون على باب العقول، لا ليكسروها، بل ليطرقوها بلُطف النبوة، وهدوء اليقين، وصبر الواعين.

جلس أبو الوليد عُتْبة بن ربيعة – السياسيّ العريق، والبلاغيّ الفصيح – أمام النبي ﷺ، لا ليُحاور، بل ليُساوم.

أراد أن يشتري الصمت بالنفوذ، وأن يُسكت الوحي بالعرض المغري، وأن يبدّل الرسالة بعرشٍ على الرمال!

‏‏ جلس بنفَس السياسة، وحنكة البيان، وخبرة المفاوضات، لكنّه لم يكن يعلم أنه يجلس بين يدي من أوتي جوامع الكلم، وأوتي معها سكينة الجبل حين تُزمجر العاصفة.

قال عتبة ما شاء، ومضى كما أراد، ونثر على الطاولة كل أوراق الصفقات: مالٌ، ومُلك، ونساء، وجاه، وسلطان.

لكنّ محمداً ﷺ، ما نطق، ولا اعترض، بل تركه حتى أفرغ كلّ ما في جُعبته. ثم التفت إليه، بكل السكينة التي يورثها الإيمان، وبكل الهيبة التي يصوغها اليقين، وقال: «أفرغتَ يا أبا الوليد؟» 

فيا من تظن أن الحق لا يُقال إلا بصوتك، تأمّل سكون النبوة في حضرة الباطل! تأمل تلك الكلمة فإنها ليست مجرّد عبارة، بل هي ميزانُ عقول، ودرسُ حياة، ومنهجُ دعوة.

لقد أبانت لنا هذه الكلمة أن الاستماع ليس ضعفًا، بل حُكمٌ من فوق، وأن الحوار لا يُختطف بالصراخ، بل يُبنى على توقير العقل، واحترام الوقت، وإعطاء الفرصة لكل فكرة أن تخرج، حتى تُرى على حقيقتها، ويُكشف غُثاؤها من ذهبها.

من لا يُمهّد لسماع خصمه، لا يُمكن أن يُقيم عليه حجة. ومن لا يصبر على كلام الآخر، لا يملك قلبًا يَسعُه، ولا عقلًا يُقنعه، ولا نفسًا تُحاوره.

الاختلاف في الإسلام ليس لعنة، بل سنة كونية (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُم)

لكنّ الفتنة تنشأ حين لا يُحسن الناس أدبَه. حين لا يصبرون حتى «يفرغ» من يُحدّثهم، ولا يُمهلونه حتى يُتمّ حجّته، ولا يُنصتون إليه إلا ليسقطوه، لا ليفهموه.

حينها تصير الكلمات رصاصًا، والمواقف سكاكين، وتُختزل الدعوة إلى تصنيفٍ وتبديعٍ وتكفيرٍ، وتضيق الأرض بمَن فيها.

ولذلك، فإنّ أولى خطوات النجاة من فتنة الاختلاف هي في أدب الاختلاف، لا في كتمه.

وإنّ من رحمة الله بالأمة أن جعل في سيرة نبيها ﷺ هذا الموقف العظيم، ليكون ميزانًا لا يزيغ، وأصلًا لا ينقض.

فيا من تمسك بزمام الحجة، لا تمضِ فيها بعجلة، بل قف، وقل لصاحبك: «أفرغت؟»، ثم أنصت له، واعلم أن من لم يُحسن الإصغاء، لم يُحسن البيان، ومن لم يُتقن السكوت، لم يُجِد الدعوة.

«أفرغتَ يا أبا الوليد؟»

جملةٌ تختصر الدعوة، وتختبر الأخلاق، وتُفرز من يصلح للبناء، ومن يصلح للهدم.

فليتنا نُعيدها لا جُملةً في الألسنة، بل خلقًا في القلوب، وليتنا نُعلّم أبناءنا كيف يُنصتون، قبل أن يُحسنوا الرد، وليصبح اختلافنا ميزة، لا مِعولًا للهدم.

ولنُوقن، كما أيقن محمدٌ ﷺ، أن الحقّ لا يُخاف عليه من حوار، وأن الباطل لا ينجو من سكوت، وأن النور يعلو، وإن صمت.

فهل نقدر – في زمن الضجيج – أن نقول:»أفرغتَ يا أبا الوليد؟» ثم نُعلّم الناس كيف يختلفون؟ وكيف يتناصحون؟ وكيف يُحاورون دون أن يهدموا الجسور؟

مساحة إعلانية