رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تُعد ليلة الخامس عشر من يوليو/تموز 2016 إحدى أهم اللحظات التحولية في التاريخ السياسي المعاصر للجمهورية التركية. ففي تلك الليلة الحالكة، حاولت منظمة «فيتو» الإرهابية (FETÖ) تنفيذ انقلاب دموي عبر تسللها إلى بعض الوحدات العسكرية، بهدف الانقضاض على إرادة الشعب ومصادرة خياراته السياسية التي عبر عنها في صناديق الاقتراع.
لكن الشعب التركي، بوعيه العميق وارتباطه القوي بقيم الديمقراطية والحفاظ على مكتسبات الدولة، نزل إلى الشوارع والميادين في مشهد غير مسبوق، تصدّى فيه المواطنون بصدورهم العارية لدبابات الغدر، ليفشلوا المحاولة الانقلابية خلال ساعات. لقد كانت تلك الوقفة الشعبية البطولية علامة فارقة ليس فقط في إحباط المؤامرة، بل في إعادة تعزيز العلاقة بين الشعب والدولة، بين السياسة والمؤسسة العسكرية.
تعزيز السيادة الوطنية وانطلاق نحو التقدم
لقد مثّل الانقلاب الفاشل اختبارًا مفصليًا لمدى صلابة الدولة التركية ومتانة مؤسساتها. إلا أن تركيا تجاوزت هذا الامتحان الصعب بإرادة شعبها وتماسك نظامها السياسي، ما رسّخ مفهوم السيادة الوطنية بشكل أعمق، ليس فقط في المجال السياسي، بل أيضًا في القطاعات الاقتصادية والتقنية والعسكرية. ومن هنا، برزت استراتيجية الاعتماد على الذات كأحد الأعمدة الأساسية للسياسات التركية في مرحلة ما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة.
فواصلت تركيا مسيرتها بثبات، محققة تقدمًا ملحوظًا في مجالات تعزيز الحكم الديمقراطي، والقطاع الاقتصادي، والصناعات الدفاعية، والعمل الإنساني، والدبلوماسية الإقليمية.
وفي التعليم داخلياً، أعادت الدولة التركية هيكلة قطاع التعليم عبر ضمّ المؤسسات التي كانت تحت سيطرة منظمة «فيتو» إلى وزارة التربية الوطنية، مما عزز السيادة التعليمية ومكّن من استعادة السيطرة الكاملة على البنية التحتية التربوية.
أما خارجيًا، فقد برزت «مؤسسة المعارف التركية» كفاعل دولي في مجال التعليم، إذ تولّت إدارة المدارس التي كانت تستغلها «فيتو» في عدة دول، ووسّعت أنشطتها لتشمل 586 مؤسسة تعليمية في 55 دولة، ضمن علاقات رسمية مع 108 دولة، مقدّمة التعليم لأكثر من 70 ألف طالب.
اقتصاديًا، شهدت البلاد نموًا متواصلًا، حيث بلغت قيمة الصادرات في عام 2024 أكثر من 260 مليار دولار، مع توقّعات بتجاوز 270 مليار دولار في 2025، مدفوعة بتوسيع قاعدة الإنتاج وتنوع الأسواق. كما ارتفعت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لتتجاوز 15 ألف دولار، حيث ما زال الاقتصاد التركي من بين أكبر 20 اقتصادًا في العالم.
أما قطاع السياحة، فقد حقق أداءً لافتًا باستقبال أكثر من 60 مليون زائر العام الماضي، ما يعكس الاستقرار والجاذبية المتنامية التي باتت تميّز موقع تركيا على خريطة الاقتصاد العالمي.
وفي السنوات الاخيرة سجّلت تركيا قفزات نوعية في مجالات الإنتاج المحلي، لا سيما في قطاع الصناعات الدفاعية الذي أصبح من أبرز روافد التقدم التكنولوجي في البلاد. فقد رسّخت شركات تركية موقعها كمورّدين رئيسيين للأسواق العالمية، عبر تصدير منتجاتها الدفاعية إلى أكثر من 180 دولة.
ويأتي هذا التقدم في إطار رؤية تركية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتعزيز القدرات الدفاعية بما ينسجم مع التحديات المتغيرة في الإقليم. فامتلاك منظومات ردع متطورة لم يعد خيارًا، بل ضرورة تفرضها طبيعة المرحلة. وفي هذا السياق، يشكّل تطوير الصناعات الدفاعية أرضية قوية لتعزيز التعاون مع الدول الشقيقة، بما يسهم في بناء منظومة أمن إقليمي قائمة على الشراكة والتكامل في مواجهة التهديدات المشتركة.
تركيا وتوسيع الحضور الدولي وسط مشهد إقليمي ودولي متأزم
أعادت تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، رسم معالم سياستها الخارجية على أسس أكثر استقلالية وواقعية.
وعززت حضورها كفاعل إقليمي ودولي مؤثر، تجلى بوضوح في انخراطها النشط في أزمات جوارها، مثل الملفين الليبي والسوري، إضافة إلى دعمها الحاسم لأذربيجان في قره باغ، وموقفها المتوازن في الأزمة الأوكرانية، حيث اضطلعت بدور وساطة محوري في اتفاق تصدير الحبوب من موانئ البحر الأسود، ما عزز من موقعها كقوة توازن ووسيط موثوق في النظام الدولي.
في السياق ذاته، حافظت تركيا على ثوابتها الأخلاقية في القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وعبّرت بشكل متكرر عن رفضها لازدواجية المعايير في التعامل مع حقوق الشعوب. كما فتحت في الوقت ذاته قنوات تواصل دبلوماسي مع مختلف القوى العالمية، من واشنطن إلى موسكو، مرورًا بعواصم أوروبا وآسيا، معتمدة خطابًا مرنًا يراعي المصالح دون التفريط بالمبادئ.
وقد تُوّج هذا النشاط بدبلوماسية نشطة وواسعة النطاق، تمثلت في امتلاك تركيا واحدة من أكبر شبكات التمثيل الدبلوماسي على مستوى العالم بـ262 بعثة في القارات الخمس، ما منحها المركز الثالث دوليًا. هذا الامتداد الدبلوماسي أسهم في ترسيخ نهج تركي خارجي يقوم على احترام السيادة، وتطوير شراكات استراتيجية قائمة على الندية، والدفاع عن العدالة في المحافل الدولية، متناغما مع المبادئ الأخلاقية والواقعية.
وفي إطار سياستها القائمة على دعم الحلول السياسية والاستقرار الإقليمي، تواصل تركيا تأكيد دعمها للعملية الانتقالية في سوريا، مع إبداء التقدير للجهود المبذولة للحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسيادتها. وتؤمن بأن تحقيق الاستقرار المستدام يتطلب تعاونًا بنّاءً بين دول الجوار والدول الشقيقة، وهو ما تسعى إليه تركيا من خلال دعمها المستمر لهذا المسار.
كما تولي تركيا أهمية خاصة لتعزيز تعاونها مع عدد من الدول، مثل ليبيا والسودان والصومال وأفغانستان واليمن، وذلك عبر تبنّي مقاربة شاملة تشمل دعم الاستقرار والمساعدات الإنسانية، وتنفيذ مشاريع تنموية ذات بعد استراتيجي. ويعكس هذا التوجه التزام أنقرة الثابت بمبادئ التضامن والتعاون، المرتكزة إلى علاقات تاريخية وروابط حضارية مشتركة.
قطر: وقفة أخوية لا تُنسى
من أبرز مظاهر التضامن في تلك الليلة التاريخية، الموقف المشرف لدولة قطر الشقيقة، التي كانت أول دولة تتواصل مع القيادة التركية مُعربة عن دعمها الكامل للشرعية ورفضها القاطع لمحاولة الانقلاب. فقد بادر صاحب السمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بالاتصال بفخامة الرئيس رجب طيب أردوغان، مؤكدًا التضامن الأخوي المطلق، كما أوفدت قطر وفدًا رسميًا إلى أنقرة في الأيام التالية، ما ترك أثرًا بالغًا في نفوس الأتراك حكومة وشعبًا.
وقد تميزت العلاقات التركية–القطرية بتكامل المواقف وتبادل الدعم في أوقات الأزمات. ومؤخراً، أدانت تركيا بشدة أي اعتداء ينتهك سيادة دولة قطر الشقيقة، حيث أكد فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان أن تركيا ستقف دومًا إلى جانب أشقائها القطريين.
وتطورت العلاقات الثنائية إلى شراكة استراتيجية متينة، عززتها اللجنة الاستراتيجية العليا التي تأسست عام 2015، والتي عقدت حتى اليوم عشر جولات ووقّعت 117 اتفاقية تعاون تشمل مجالات الدفاع، والطاقة، والتعليم، والاستثمار، والإعلام. ويعمل اليوم في قطر أكثر من 770 شركة تركية، بينما تنشط نحو 250 شركة قطرية في السوق التركية، ضمن بيئة تعاون مزدهرة تعكس الثقة المتبادلة والرؤية المشتركة لمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا في المنطقة.
خلاصة التجربة
لقد أثبتت تركيا في ليلة 15 يوليو/تموز أن إرادة الشعوب لا تُهزم، وأن حماية الديمقراطية ليست حكرًا على المؤسسات، بل مسؤولية وطنية يتقاسمها الجميع. لقد انتصرت تركيا ليس فقط على الانقلاب، بل على تاريخ طويل من التبعية، والتدخل، والهيمنة الداخلية والخارجية.
وها هي اليوم تدخل مئويتها الثانية بجمهورية أقوى، وشعب أوعى، واقتصاد أكثر تنوعًا، وسياسة خارجية أكثر توازنًا، وصناعات دفاعية أكثر استقلالاً.
إن ذكرى 15 تموز ستظل حية في الذاكرة الوطنية التركية، لا كجرح، بل كعلامة مجد، ونقطة تحول، ودليل على أن الأمة التي تثق بنفسها، وتتشبث بإرادتها، لا تُهزم.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3069
| 21 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
3066
| 20 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2856
| 16 أكتوبر 2025