رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. جاسم الجزاع

* باحث وأكاديمي كويتي
Jassimaljezza@hotmail.com

مساحة إعلانية

مقالات

0

د. جاسم الجزاع

حين تضعف منظومة الحكم الرشيد

22 أكتوبر 2025 , 04:02ص

لم يعد مشهد الاحتجاجات والحراك الشبابي مفاجئًا لنا وللمراقبين في عالمٍ يتغير بسرعة مذهلة، وحيث تتقاطع الأزمات الاقتصادية كالتضخم والبطالة وسوء توزيع الثروة، مع التحولات الثقافية والتكنولوجية المعقدة، وتتعاظم فجوة الثقة بين الشعوب والإدارات الحكومية، فحين نسمع عن مظاهرات في مدينة عربية ما أو حتى غربية، فلا ينبغي أن نندهش، لأن الاحتجاج لم يعد حدثًا استثنائيًا عجباً، بل صار مؤشرًا على خللٍ في العلاقة بين الإدارة التي تحكم وبين المحكوم، وعلى ضعف منظومة الحكم الرشيد التي تمنح الشعوب شعورًا بالكرامة والمشاركة.

فالثورات لا تولد من فراغ، ولا تشتعل بسبب رغيف الخبز وحده، بل حين يشعر المواطن أن صوته لا يُسمع، ومستوى المعيشة لا يلبي الطموح ومعدلات الفقر بازدياد، وأن الفساد الإداري أقوى من العدالة، وأن وعود التنمية صارت شعاراتٍ جوفاء. فالدولة أو النظام الذي يفتقد إلى الحكم الرشيد، يتراكم الغضب ببطء، كما يتراكم الغبار على نوافذ الإهمال، حتى تأتي شرارة صغيرة لتكشف حجم الخلل الداخلي.

فالدولة الرشيدة تمتلك ما يمكن أن نسمّيه «المناعة السياسية»، أي القدرة على امتصاص الصدمات، ومعالجة الأخطاء قبل أن تتحوّل إلى أزمات حادة، ولا تقمع الاختلاف بل تُنظّمه، ولا تخاف من النقد بل تعتبره تغذيةً راجعة، ولا تكتفي بالشعارات بل تُحاسب وتُصلح وتُشرك المجتمع في صناعة القرار.

وتشهد على ذلك تجارب عديدة على أن هذه المناعة ليست نظرية مثالية، بل هي واقعية ملموسة، فـماليزيا مثلًا واجهت أزمات اقتصادية وسياسية كبرى في تسعينيات القرن الماضي، لكنها تجاوزتها بالحوار الوطني، وإصلاح المؤسسات، ومحاربة الفساد ضمن رؤية تنموية متكاملة، فاستعادت ثقة المواطن وواصلت النمو.

وفي قطر أسهمت الحوكمة الرشيدة في بناء علاقة متينة بين القيادة القطرية والمجتمع القطري، قائمة على الشفافية، والتخطيط طويل المدى، وتوزيع الثروة بعدالة، مما جعلها من أكثر دول المنطقة استقرارًا وجذباً للعديد من الملفات السياسية والاقتصادية والرياضية.

أما النرويج وفنلندا في أوروبا، فقد حولتا عائدات مواردهما الطبيعية إلى صناديق سيادية شفافة تخدم الأجيال، فصارت العدالة والرضا المجتمعي أقوى جدار ضد أي تمرد أو اضطراب.

وعلى العكس من ذلك، حين تغيب قواعد الحكم الرشيد، تتحول الدولة إلى ساحة توترٍ دائم، فقد رأينا كيف أدى الفساد وغياب العدالة وانسداد الأفق السياسي في سوريا الأسد، ولبنان والسودان إلى احتجاجات متكررة أسقطت الحكومات، وكيف جرّ عدم الرشد في القرارات إلى انهيار مؤسسات بعض الدول واندلاع حروبٍ داخلية مدمّرة في دول أخرى.

وهكذا يتبيّن أن استقرار الدول لا تصنعه الأموال ولا الجيوش، بل يصنعه نضج الإدارة الحكومية وعدالة المنظومة الأخلاقية للحكم، فالحكم الرشيد الراشد ليس نموذجًا مثالياً خيالياً، بل ممارسة واقعية تقوم على العدل والشفافية والمساءلة وتوفير معيشة كريمة للمواطنين، ولتحصين النظام العربي من الاضطرابات، يجب أن تُبنى الثقة بين الإدارة الحكومية والمواطن، ويُفتح باب الحوار والمشاركة، وتُفعّل آليات الرقابة ومكافحة الفساد، وتتجه الجهود لتحسين المعيشة للمواطن البسيط العربي، ويُربّى الجيل الجديد على أن النقد المسؤول المحترم جزء من البناء لا من الهدم، فحين تُصغي الدولة إلى شعبها بصدق، تُغلق أبواب الثورة والاحتجاجات قبل أن تُفتح.

مساحة إعلانية